الأحد، 17 سبتمبر 2023

"موتتان"

 


خرجت من عمارتي الزجاجية الزرقاء، ناطحة سحاب طبعا، اسكن في الدور الثلاثون. اقيم في هذه المدينة الكندية الرائعة بشتى المقاييس. اتجهت الى محطة القطار القريبة جدا من عمارتي للذهاب الى عملي.  تفاجأت ان كثيرا من المشاة يذرعون الشارع سيرا على الأقدام بعد أن ُطلب منهم النزول لأن القطارات في تلك المنطقة تم ايقافها عن العمل. لم افهم ماذا حدث فقط سمعت أطراف حديثهم. حتما حدث أمرا جم. بعض الناس يركضون لئلا يتأخرون عن دوامهم، دون أن يسأل حتى واحدا منهم" ماذا حدث؟" هم مطمئنون لأن دولتهم وحكومتهم ستتعامل مع ما حدث وستقوم بدورها. اما دورهم هم فهو ان يذهبوا الى وظائفهم. نقطة نظام! 


 

عمارة زجاجية سوداء خلف عمارتي رأيتها محاطة بأشرطة صفراء وأمامها سيارات شرطة عدة وعربتي إسعاف، اضاءتها الحمراء تضئ وتنطفئ. رجال الشرطة ذكورا واناثا يضعون نظارات شمسية غامقة يملئون المساحة الأمامية من مدخل العمارة. مشهد الصراحة يشبه مشاهد الأفلام عند حدوث جريمة اغتيال. بعض المارة من كبار السن المتقاعدون جذبهم الفضول وارادوا كسر روتين حياتهم من تمشية مع كلابهم واحتشدوا مع كلابهم محاذيين للعمارة لعلهم يسمعون أي نبأ عما حدث. هيا يا بنات افكاري اليمنية اقفزي حافية مثل راقصة بالية. حللي الوضع واختلقي الافتراضات؟ هل قبضوا على لص دخل ليسرق وحاول مالك الشقة الامساك به فقتله وهرب؟ هل رمى أحدهم نفسه من الشرفة؟ هل أفرط أحدهم بشرب الكحوليات وتشاجر مع زوجته ثم سقط أحدهم من النافذة؟  غير أنني لم افهم ما الداعي لإيقاف القطارات وتعطيل الناس عن مصالحهم. لماذا يأخرون كل الناس عن دوامهم من اجل مجرم؟ فالناس تقتل منذ ايام قابيل وهابيل فما الداعي لحالة الطوارئ هذه؟ يرفهون الانسانية في هذه الدول!

لكن الموت ليس له بوصلة. يمشي في اللحظة الواحدة في عدة اتجاهات ليأخذ هذا ويشد ذاك ويجذب تلك. هناك في بلادي البعيدة جدا عني، بلادي اليمن الحبيب حدث موت أخر. في حي سكني مدقع الفقر في مقبرة يجيء الزوار ايام الجمعة لزيارة احبتهم من الموتى وقراءة الفاتحة. لكن في ذلك اليوم كان هناك رائحة كريهة في الاجواء. تقعد متسولة عند بوابة المقبرة للتسول. لفت حجابها حول فمها وانفها من قوة الرائحة الكريهة. تدعو الزائرين للبحث داخل المقبرة لعلهم يجدون قط أو كلب ميت. لا أحد يتصدق عليها. أصبح الجميع " حالته حالة". يتلثم احد الزوار يأنبها قائلا :-" كيف تقعدين هنا برغم هذه الرائحة؟ قولي لحارس المقبرة ان يفتش لعله قط ميت." دخل بعض الزوار ينادون حارس المقبرة الذي غالبا ما يكون غير موجود في وقت الظهيرة لأنه يذهب لشراء ما يقتات به يعود ببعض قات تصدق به عليه أحد باعة القات. بعض زوار المقبرة دخلوها ثم غادروها فورا من بشاعة الرائحة. البعض تلثم لاعنا الحارس لأنه متكاسل عن البحث عن الحيوان الميت متحملا هذه الرائحة العفنة. لعنوه ولعنوا وجهه. لا أعلم لما وجهه؟

اعود مرة اخرى الى المدينة الكندية حيث اقيم، مدينة عطرة الأنفاس. استأنفت القطارات عملها وغادرت الشرطة العمارة بعد ان ازالت الاشرطة الصفراء وُسمح للسكان ان يعودوا الى شققهم بعد ان تم اخلاء العمارة. جاءت الأخبار مساء لتبدد الغموض. أعلنوا ان أحد سكان العمارة ربما هو ممن يتعاطون المخدرات قام برمي كلبه من دور عالي ليسقط ميتا غارقا في دماءه. اتهم السكان صاحب الكلب انه كان يسيء معاملة كلبه. شهد بعض الجيران انه كان يأخذ كلبه للمشي وهو يجره جر مؤلم يدفع الكلب للنباح. قالت الشرطة ان القاتل سوف يتم فحصه للتأكد من خلو دمه من المخدرات وإلا فإنه سيتم تغريمه وحبسه. جاء الرسامين تضامنا مع الكلب ورسموا على اسفلت الشارع شكل جثة الكلب وسكبوا طلاء أحمر رمزا للدماء. جاء كثير من الجيران مع كلابهم وقططهم للتعبير عن التكاتف مع الكلب المغدور به. وضعوا باقات من الزهور في موقع جثة الكلب المقتول. بكى البعض تأثرا. اشجاني المشهد حتى تجمعت الدموع في عيناي فسالت. ليس على الكلب فأنا لم يصدف حتى أن رأيته، ولست من دولة يبكيها موت كلب، لكن من سمو الانسانية في هؤلاء البشر. من فيض العدل والانصاف الموجود في هالاتهم. هذه انسانية من يعتبرهم كثير من المسلمين " كفرة"!! لكن لو اعتنقنا الانسانية فلربما كنا سلمنا من الحروب وتركنا الأديان كشأن شخصي بين العبد وربه!

نعود الى البوصلة التي تشير الى المقبرة في صنعاء. جاء في اليوم التالي زوار جدد. اسقوا الزهور حول قبور أحبتهم. غير ان الرائحة الكريهة كانت قد وصلت حدا لا ُيحتمل. دخل مجموعة من الرجال غرفة الحارس، دفعوا الباب، فصدمهم ان الحارس ميت يعلم الله وحده منذ متى. سارعوا بدفنه في حفرة كانت مفتوحة. قرأوا له الفاتحة. رحم الله امرئ لم ُيعرف قبره. الناس اصلا لا يعرفون من هو فعلا. لو لم يجعل الله سبحانه وتعالى للموت رائحة لما عرف بموت الحارس أحد. الحارس كما كان يذكره البعض شديد النحول، يظهر سوء صحته على محياه. لعل أهله يأتون للسؤال عنه يوما فيعلمون من الحارس الجديد انه مات. مات الحارس فلم تقف من اجله لا قطارات ولا حضرت شرطة ولا رمى له أحد ريحان. ذهب ذلك الشاب مع الريح. سيطويه النسيان. لا بأس، فمن منا لن يموت؟ أتراه مات ليلا ام صباحا؟ غير مهم. لا أحد مهتم اصلا بتفاصيل موته. بكل بساطة روح وراحت الى حيث تروح كل روح. قد تكون روح الكلب وروح حارس المقبرة راحتا في نفس البوصلة.

 

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

جميل ومقارنة مؤثرة

غير معرف يقول...

مقارنة جميلة بين قيمة الحيوان في الغرب و قيمة الانسان في بلادنا.

غير معرف يقول...

رروعة و هادفة