الأحد، 1 أغسطس 2021

قصة قراري...


في السنوات الأربع الماضية، كنت طوال يومي، ساعات يقظتي أتخيل وأحلم أنني أفر من اليمن حافية القدمين والمعنويات. أتذمر، أشتكي جهارا نهارا، وأحلف يمين أن ما هذا هو اليمن الذي نعرف. "اليمن السعيد" ماذا حل به؟ كما تساءلت قناة الجزيرة في أحد برامجها، كما لو كانوا يا حرام "أبرياء" لا يعرفون. سؤال الجزيرة اوجهه لأولاد الكلب في الداخل والخارج وهم يعلمون جيدا أن من المعيب أن تسب كاتبة قصص أدبية قصيرة فوق سطور قصة لها. لكنهم أيضا متيقنون أن ما فعلوه هم والحلفاء إياهم في حق اليمن لهو أعيب وألعن بل أوسخ. بلا تأنق في الوصف هم أضاعوا منا اليمن. ضالتنا ستعود، لكن يعلم الله متى؟



المضحك المبكي أنني ظللت طوال العشرون عاما الأولى من عمري وأنا مغتربة في الخارج أشتاق لليمن وللارتماء في حضنه، هو نفسه اليمن الذي "اليوم" أتوق لمفارقته. كنت خلال العشرون عاما في الغربة أكتب القصص لليمن وأهديها إليه محملة بالغرام والشوق. كنت اكتب عن افتقادي للمة الاهل. كنت أكتب عن رائحة التراب بعد المطر، عن مذاق الأكل اليمني ورائحته الزكية. فمالي اليوم في اليمن أبدو كذئب فوق هضبة متأهب لاقتناص الفرصة المناسبة للنفاذ بجلده لئلا تفترسه عيشة الضباع. هذا اليمن هو نفسه الذي كنت في سنوات غربتي اتفرج على كروت سياحية عنه. دار الحجر، مدرجات جبال اب، أو صنعاء القديمة والستارة والمغمق فتبكيني أشواقي الحارة لوعة واشتياقا لريح اليمن. هو نفسه هذا اليمن الذي اختنق فيه. ماذا حل باليمن السعيد؟ انه سؤال الجزيرة وننتظر الإجابة من قطر، السعودية، الامارات، الكويت وكل البلدان العربية التي توحدت على اليمن بدلا من أن تتوحد ضد اسرائيل. ماذا حدث لليمن منذ عام2015 فعلا يا جماعة؟ لا ... ليست الحرب. فالحرب قد طالت بنيرانها سورية، ليبيا وتشرد أهلها ما بين نازح ومهاجر. لكن ظلت اوطانهم على بؤس أوضاعها هي الوطن. أما نحن فاليمن لم تتدمر مبانيها فحسب ولا ضاعت هيبة الجمهورية فيها فقط، ولا استشهد كثيرون من اهل اليمن، ولا حاصروا اليمن فقط... لا! الحرب عندنا قام بها طبيب جراح هجين. حقن جينات اليمن الأصيلة بجينات وراثية من بلد وشعب آخرين. عندنا الحرب بدلت من اليمن هويته. اليمن ما عاد كحيل العينين ولا عاد اليمن ذاك الأسر الجميل. قد أكون مبالغة في الشعور بهذا الشرخ الذي حدث بيننا وبين اليمن الأم. صعب جدا شعور الابن أن امه ما عادت امه... لكنني ابث مشاعري في إذاعة روحي وانا بالتالي حرة فيما اكتب.

منذ اول ليلة يوم الأربعاء، منذ اول بوب بوم وليلي نسخ من وجه طائر البوم قناعا لكل الليالي التي مرت بي لاحقا. أنا كسائر البشر أريد أن افرح واغسل عني كل الهموم. ما نبات فيه نصبح فيه. نتمنى فرح يفاجئنا أو نشوة غامرة نتقفز سعادة بها. لكن لا يحدث تغيير الا للأسوأ وتغرقنا سلبية كالفيضان. فنطفو فوق سطحه. اليمن السعيد ماذا حل به؟ أوجه سؤالي لفخامة عملاء بلادي في الخارج وأطباء الجراحة في الداخل. الذين أسأل الله أن يلقوا كلهم عذاب القبر فوق أسرتهم وهم نائمون فلا يعرفون نوم لذيذ، ولا يذوقون طعم النوم المريح. كيف لا ادعو عليهم؟ كيف؟ لم يبق منا مواطن في اليمن سليم الا وهو من داخله جريح. دمروا اليمن وازدهروا هم كالضواري مع الريح. مسكين شعبي، ومسكينة أنا لم يسمح لنا حكامنا حتى بالتنهد، ولا سمحوا لنا بالزفير، ولا وافقوا أن ندلي بتصريح.

في أحدي الليالي التي صارت متشبعة بالشعور بالظلم، ومثقلة – لا استحي ان أعلن – مثقلة بالحقد، نمت في غرفتي في صنعاء مثلما كل الناس تنام. لا أدري، هل أنا حقا أنام ام انا ليليا أتوسل أن يزورني ولو حلم من الاحلام. تغمض الناس اعينها لتنام وانا أغمض عيني لعلها تأتيني الاحلام. في تلك الليلة المنيرة حلمت انني قد غادرت اليمن وأقيم في بلد أوروبي. كان الناس شعرهم أشقر واعينهم زرقاء. حلمت انني صرت أعيش في بلد أخر، اسمه ليس اليمن. تأملت العيون الملونة، الملابس البسيطة الأنيقة، فجأة عضني مشهد المحاربين اليمنيين يقفزون من تلة لأخرى حفاة. يطلقون الرصاص على بعضهم البعض.  حلمت انني في بلد أوروبي شوارعه معبدة. بلا شرخ، بلا مطب، بلا حفرة، بلا بالوعة تبتلع سيء الحظ الذي قاربها. انهمرت دموعي غزيرة حتى طالت فتحات انفي وانا أتذكر حفر شوارع بلادي التي عندما تعبرها سيارة تعترك امعاء السائق مع قلبه. الشوارع في اوروبا تزلج على جليد. في الشارع ناطحات سحب زجاجية من الجهتين. تذكرت حطام بيوت بلادي الياجور التي تقف الغربان على حطامها، قصفتها طائرات التحالف فطحنتها محولة إياها الى حبيبات بابريكا. بكيت في منامي حتى شهقت. حتى شهقت! حتى شهقت! مال الوطن ماله لا ينفصل عني؟ غادرت اليمن لأفرح لا لأبكي عليه في البعد! سالت دموعي على خدي وانا مغمضة العينين.

في حلمي ظللت أمشي حتى سقط ليل لا ليل فيه من شدة الانارة. أضواء ساطعة، أخرى متلألئة       وكثير منها متلونة. شوارعهم العادية مهرجان. ذكرت صنعاء بلا عواميد اضاءة تنير الشوارع الحالكة الظلام فيها. كثيرون لاقوا حتفهم في تلك الشوارع لأنهم ببساطة " لم يروا" حاجز صخري ما. اما في حلمي فمن قوة الإنارة من عواميد الكهرباء غطيت عيناي بقاع يداي. عذرا انا خارجة من بيات شتوي. في اليمن ينير المواطنين مداخل بيوتهم بأنفسهم. ( ُجلب داخل قارورة.) ينيرون خطاهم بمصباح رخيص يربطونه حول جباههم. يشحذون من القمر ضياء. شعب اليمن أناس لا يريدون من حكامهم أي حقوق ولا مطالب.  يكفيهم فقط أن يتركوا الناس تعيش. تلفت يمين وشمال في حلمي. أبهرني النظام والترتيب. لا يوجد أحد عاكس الخط. مكان محدد لعبور المشاة. الجهة الشمال من الشارع مخصصة للدراجات الهوائية والنارية. ناس تتمشي مع كلابها. يسود الشارع هدوء وروقان. في اليمن يسود الشارع أصابع وأكلة عصيد.

 تذكرت في اليمن المواليد الذين يتعلمون قيادة السيارات بدلا من الرضاعة. تذكرت أن عدد عاكسو الخط في اليمن أكثر من عدد السائقين في الاتجاه السليم.   تذكرت صوت الأبواق، الصياح، السباب، التنمر على النساء السائقات. استأت لكل تلك الذكريات المقيتة. نهرت نفسي وزجرتها لتذكرها اليمن في كل حين! فما كان الداعي لمغادرتها اذن؟ تبا للحنين!

كان حلمي تلك الليلة خيالي جدا مفرط في الخيالية. حلمت ان جيوبي منتفخة بالدولارات. دخلت مطعم ففتح النادل الكرسي لي كي اجلس. في اليمن لا نجلس في مطعم الا بعد فحص الكرسي خشية أن يكون مكسور.  طلبت إفطار، غداء وعشاء مرة واحدة. لفت نظري صوت النادل المنخفض وتسجيله طلباتي في دفتره. ثم انحنى وذهب. دقائق ووصل الطعام. كان الطعام في الحلم لذيذ. النادل يحترمه الكل. يبتسم للزبائن والزبائن يطلبون منه بأدب جم. فلا يناديه أحد يا حبوب، ولا هااه يا دب، ولا يا خبير، ولايا ضاك، ولا يا سيد الناس. التعامل عندهم اغراني ان اغادر المطعم الى محل ثياب. كان حلمي تلك الليلة منطلق. دخلت المحل فلم يفتش حقيبتي أحد في مدخل المحل. لم يتهم أمانتي أحد. لم يُهينني أحد. تفرجت على الملابس. اعجبني فستانين وتنورة. اشتريتهن. لبستهن كلهن مرة واحدة وخرجت وسط نظرات التعجب. لكن لم يمنعني أحد، فما دمت لا اؤذي أحد فأنا حرة. لا منعني أحد! لا شزر الى أحد! لا جذب حزام فستاني أحد! لم يكلمني أحد بل ابتسم لي الجميع يستظرفون الزبونة التي ارتدت فستانين دفعة واحدة وتنورة. عندما غادرت لم يفتش أحد حقيبتي بحثا عن قطعة ثياب او جورب قد اكون سرقتها. بلعت ريقي في الحلم. مهين جدا على فكرة إهانة الاناث في مداخل المولات و السوبرماركت الكبيرة. التعامل في اوروبا في كل مكان انساني، قانوني وراقي. حتى اليمنيين هنا ارتقوا وانتفعوا من تحضر هذه البلدان. فقد تعلموا احترام النظام من احترامهم لنظام هذه البلدان. لقد شعروا بالطمأنينة فغمرهم الشعور بالحرية والأمان. في اليمن نحن نخاف حتى من كلاب الشوارع المسعورة لا تأبه الدولة بنا. اليمنيين في هذه الدولة الأوروبية التي تحترم إنسانية الانسان سواء كان مواطن او غريب ُتشعر النازح اليها بإنسانيته حتى يشرع هو بقص مخالبه التي كان في اليمن يقلمها.

كنت مرتاحة جدا في حلمي. قمت بكل ما كنت اود القيام به. حتى الفحوصات الطبية التي لطالما تمنيت القيام بها عملتها. متمتعة بالخصوصية والاحترام.  رأيت هنا وهناك يمنيين. عرفتهم من ملامحهم. لكن كانوا منيرين. غير شاحبين، غير كالحين. سريعي الخطى. راقيين السلوك. ارتقوا حين تم التعامل معهم برقي. عدت الى منزلي في البلد الأوروبي بسعادة غامرة بالرضى. الكهرباء لا تنطفئ. الماء يُضخ من الحنفيات بغزارة لها صوت. استخدمت المصعد، الثلاجة، المكنسة الكهربائية، الغسالة الاوتوماتك، المكيف، التلفاز، والنت مجاني!!  في هذا البلد لا يخرج الناس مضغوطين للقيام بزيارة واجب عليهم أدائها. لا يوجد خروج الا للترفيه. لا توجد كل تلك الضغوطات الاجتماعية المثقلة بالمظاهر والتي تجبرنا على الذهاب للمناسبات كأننا روبوتات مدعوات لزفاف في اليمن! في هذا البلد ابق في البيت ان اردت. لا توجد ضغوطات ولا هم كبير اسمه إرضاء الاخرين. مرت أيام في البلد الأوروبي وانا محلقة في الجمال   والحرية. تاقت نفسي لأكلة فول. فاشتريت علبة وطبختها. صدمني تغير طعمها. مع الوقت اكتشفت ان الفول لا يكون فول الا في اليمن، ولا الطماطم طماطم الا في اليمن. ولا اللحم لحم الا في اليمن. صار الطعام بلا رائحة ولا مذاق. مع كل لقمة كنت اضعها في فمي ينغصني الحنين. لعل الطعام هنا تنقصه بهارات النكد التي كانت تجعل الطعام بذلك المذاق الفريد. النكد اهم بهارات اليمن. النكد لتوفير المال لشراء مستلزمات الأكل. النكد لتوفير الماء لغسل الدجاج والخضروات. النكد المثقل بالتوتر والخوف ان تنتهي الدبة الغاز قبل نضج الأكل. لهذا كله الطعام رائع المذاق لأنه يحوي الكثير من بهارات النكد. صدقوني...وهنا من سهولة كل شيء يخال لك ان الطعام بلا ملح. مرت الأيام في أوروبا. الفت النظافة واعتدت القوانين واللوائح والأنظمة. لم يعد يلفت نظري لا زرق العيون، ولا خضرها. بكيت شوقا لأعين الناس في شوارع بلادي. بكيت حتى صحوت من نومي. تملكني فزع. اين أنا؟ وقفت اتلمس الأثاث من حولي لعلي أعرف اين انا. رأيت فوق زجاج نافذتي باللصقة علامة اكس. اطمأننت انني إذا في اليمن. فعلنا هذه العلامات في 2015 كي لا تهشم الضربات الصاروخية زجاج نوافذنا. انا إذا في اليمن...  يووووه الحمد لله. الحمد لله. الحمد لله.

سلوى الارياني

 

هناك 5 تعليقات:

Unknown يقول...

اغبطك على الهبة الجميلة اللي تملكيها. حلمك حلمي و حلم كل مواطن مسكين..كل مواطن يخاف الله و أصابه من الحرب ما أصابه

غير معرف يقول...

جميل ومؤلم مثل كل شي في اليمن . يارب غير احوال بلادنا الى احسن حال❤️❤️

Amatalellah Al-Eryani يقول...

ياسلام على ابداع وحس مرهف وحلم لنا كلنا على دربك والله اني على كلمتك شهقت وبكيت من اول ما قراءت القصه والله بكيت من قلبي لاول مره على وطن ضاع وضعنا معه انتي فعلا لك احساس جميل في الوصف وابداع يوصل لكل من يقراء لك الصدق روعه انتي هائله لقد غلبتي كل كاتب وكل وطني لان الوطنيه ليس لها وجود عندنا لكني رأيتها في قصتك

محمد يقول...

اليمن اصبح حلبه مصارعه بين قوى اجنبية و احنا الضحايا. اليمن اليوم ليست اليمن قبل 2014. سافرت في 2012 و عدت 2018 و اصبح اليمن فوضة و مخيف.
ضيعونا الله يضيعهم و يضيع اهلهم مرتزقة و مصاصين دماء.
كم احزنني وضعنا و نحن كذلك نشعر بما تشعري فيه و نتمنى نكون دولة بنظام و قانون و احترام متبادل. اتمنى يمر يومي سعيد باليمن بدون شتائم و بدون غضب و بدون مضايقه.
ابدعت بهذه القصة يا استاذة

Salwa Aleryani يقول...

شكرا على هذا التعليق الرائع