الخميس، 1 يوليو 2021

... ومن ثم " أنا".

 


دخلت أصبعي شوكة من صبارة جميلة في حديقة منزلي. لست أدري لما هاجمتني وأنا كنت أسقيها. حاولت اخراج الشوكة فلم أفلح. ظلت تخزني، دقائق واحمر مكانها، شعرت بأصبعي ساخنا. سلطت ضوء موبايلي على أصبعي فلم أجد رأس الشوكة لكي اجتذبها بملقط صغير فلم انجح. اخذت بالملقط اجذب الجلد المحمر بشكل عشوائي سريع متوهمة أن الشوكة ستخرج حتما. غير أن أصبعي ظل محموما ومؤلم.

الوقت كان قد حان لدخول المطبخ لطبخ الغداء. سأُخرج الشوكة لاحقا. غسلت وقطعت سريعا الخضروات والدجاجة. تذكرت وأنا اضيف البهارات أنني لم أغسل الثياب البيضاء بعد. تركت المطبخ، وضعت الثياب البيضاء في الغسالة وأدرت الغسالة. جلست قليلا على الكنبة. أنا لم أُكمل تجهيز الغداء، لكن أصبعي محموما، ينبض. تمنيت لو في بيتنا قطعة ثلج لكن الثلج " طبعا" لا يوجد. لا بأس سأُخرج الشوكة لاحقا. أردت استكمال طهو الغداء غير ان موبايلي رن. إنها أمي تشكو لي أنها سقطت وألتوى أسفل ساقها اليمين. أطفأت النار بتوتر، هرولت مسرعة أقود سيارتي إلى بيت والدي. أمي حبيبتي كانت تتوجع. دلكت ساقها برفق بأصبعي النابض بالألم. طلبت مني أن أدهن ساقها بالفازلين ثم اربطها ففعلت. العجيب أن وجع أصبعي صمت في تلك الدقائق لعله صمت الحب والطاعة. أعطيتها مسكن للألم وخرجت وهي تدعو لي.

عدت إلى منزلي انشر الثياب البيضاء على الحبل. حسدت الثياب البيضاء تحت الشمس تلاعبها الريح، لا عليها مسئولية ولا هي أسيرة مهام. ثم عدت إلى المطبخ أكمل طهو الغداء. جهزت الطاولة بالصحون، الملاعق والكؤوس. جلست على الكنبة أتفقد أصبعي فأتصل بي زوجي يقول انه عائد الان من الشارع ليتناول الغداء سريعا ويخرج فورا لأداء واجب العزاء حيث توفي والد صديقه صباح اليوم. طلب مني أن أكوي ثوبه. قمت أكوي تاركة وجع أصبعي للكنبة. كويت الثوب مشوشة، مرهقة فأحرقت أصبعي بحافة المكواة الساخنة. أردت أن أبكي لكني لم افعل. حتى البكاء يحتاج لمساحة.

اجتمعنا كافة أفراد الأسرة وتناولنا الغداء. لم أركز ماذا طبخت. لم يلحظ أحد أصبعي أو ربما لمحوه محمرا، لا أدري لكن لم يسألني أحد عن الخطب. بعد الغداء قدت سيارتي إلى المركز خلف بيتنا لكي أرى ماذا سيقترحون عندما أخبرهم أن في أصبعي شوكة انتفخ مكانها. تذكرت أنني من الصباح لم أرتح لحظة. لم أفعل شيئا اسمه " لا شيء". ممتع ألا نفعل أي شيء. عند وصولي إلى باب المركز اتصلت أمي فوقفت أحادثها عند باب المركز وكما يبدو كان صوتي عاليا حيث كان الرائح والغادي ينظر إلي. عفوا نسيت أن في عرفكم صوت المرأة عورة! قالت أمي أنها تحسنت كثيرا داعية لي الله أن يفرج عني كل هم. كم هموم يا كريم وكم ستفرجها علينا وهي تجري في اوردتنا مجرى الدم. لكن أنت القائل للشيء كن فيكون. في المركز قالوا انني تأخرت وان الشوكة خطيرة وان الانتفاخ بداخله قيح. انا أساسا اعاني من ضعف وراثي في الأعصاب بسبب الاصابة بأمراض مزمنة تهاجم الأعصاب. بلغني الدكتور ان لابد من فتح الانتفاخ ، تطهير القيح واخذ مضاد حيوي. كاد الدكتور يخدر يدي. سألته بلا أي تحرج :-" كم سيكلف تنظيف القيح، و التخدير والمضاد؟" أجاب:-" قرابة الأربعة الاف ريال." ُصدمت من رده. كم يدفع المرضى الذين يضطرون لعمليات جراحية. وقفت قائلة :- " سوف أتي غدا. حقيبتي ليس فيها الا ثمان مائة ريال. شكرا دكتور." أربعة ألاف ريال مبلغ يفوق قيمة غداء الغد بل وحلوى لبعد الغداء. لم يستبقيني الدكتور ولا علق. ليت الأطباء يثقون أن المال مهم لكن الإنسانية جديرا بهم أن تكون لديهم أولى، اسبق.

عدت إلى منزلي حزينة. أنا أستاذة لغة إنجليزية في مدرسة خاصة. لدي دفاتر لابد أن اصححها. اخذت الدفاتر وبدأت اصحح بالأحمر. تأملت أصبعي والقلم. اللون مشترك لكن أصبعي يؤلمني والقلم - يا بخته - لا يشعر. لم ابدأ التصحيح بعد، رن موبايلي. انها مديرتي تبلغني أن غدا تأتي لجنة من الوزارة لتفقد المدرسة وأمرتني أن اطلب من الطلاب أن ينظفوا الفصل. لم أحب كلامها. ليس في تنظيف الفصل عيبا، بل هو مشاركة وخدمة جماعية. لكن أن تكون المديرة غير موفرة في المدرسة لأي عاملات نظافة ثم تريد عند زيارة الوزارة ان ينظف الطلاب ليغطوا على بخلها وشحها فلا وألف لا. قلت لها حاضر وكم نقول حاضر على ما لا نرضى عنه. ذهبت صباح اليوم التالي باكرا، نظفت أنا. ما ذنب أطفال يأتون ببطون جائعة لأخذ كم ضئيل من العلم، وكم وفير من سوء المعاملة أن نفاقم عدم ارتياحهم بتنظيف فصل يحوي من الغبار اقل قليلا من الربع الخالي. نظفت قدر استطاعتي وجلست أكل ساندوتش واقبل أصبعي، ثم أحاول عضه لعل القيح ينفجر. هكذا أحيانا نفعل أشياء مضحكة.

عدت إلى منزلي ظهر ذلك اليوم وأعددت الغداء. بعد الغداء قدت سيارتي للاطمئنان على أمي الغالية فوجدتها لله الحمد تمشي يشكل طبيعي وهي الأخرى ترفع الصحون بعد الغداء فرفعتها أنا، غسلت الصحون لأعاون من ربتني صغيرة، مشطت شعري وفضلتني على نفسها. ودعتها بحضن قوي وتنشقت عبير حضنها، وخرجت بعد ذلك عائدة الى منزلي. كان ابني الصغير يحتاج أن احفظه سورة وهو صغير. حفظته نصف السورة، تركته يلعب وقمت لأنظف المطبخ. أكملت التنظيف ذاهبة الى كتابي لأحضر الدروس الخاصة بحصة الغد. تلك الليلة تناولنا وجبة العشاء وأصبعي بنفسجي. صعقني منظره. لا بأس، سيتحسن أصبعي سيتحسن. ملاءات أسرتنا تحتاج الى تبديل وغسل السابقة ففعلت ذلك. خرجت الى حديقة منزلي لأعاتب الصبارة. فوجدتها شامخة لا تأبه مثل حكامنا نحن نموت وهم يزدهرون. لعنت كل أشواك الدنيا. شوكة الصبار، شوكة المرض، شوكة الفقر، شوكة الجهل، شوكة الظلم، شوكة الذل، شوكة عمل البيت وشوكة الوحدة الموحشة.

ظلت الطاحونة تدور، وانا معها أدور جمل معصوب العينين.  يوجد في اللغة العربية كلمة " دلال" ترى أين نحن منها معشر النساء في اليمن لا بل في الوطن العربي. اين نحن من الدلال في زمن الرجال فيه قطع شطرنج. محاربون، مرتزقة، عملاء، فسدة وأعداء لكن لا بأس. فالله حسبهم جميعا وحسبنا.  

وأنا هنا أكتب عن أصبعي؟ يا للخزي في وقت أوطان فيه تنهار، مدن تتساوى بالأرض، أجيال تضيع بإحكام، لا يتعلمون، لا يتعالجون، لا يرفهون عن أنفسهم ترفيه سليم بل في حضن القات. وكيف يحق لنا أن نلومهم وجيوبنا خالية الوفاض؟

صباح اليوم التالي كان أصبعي متحجرا لا ينثني. تنهدت. ليتني أجد من يكون أنا. فيقوم بمهامي، يعالج أصبعي، يربت على ظهري ويسعدني.  لا يتوهمن أحدا من قرائي أنني أكتب عني أو أن القصة قصتي. بل هي قصتي، قصة اختي، جارتي، زميلتي في العمل وقصة قريبتي. قصة كل الإناث اللواتي أعرفهن ويحزنني حالنا. أنا أغني مع الأغاني الحزينة بصوت عالي برغم أن صوتي ليس جميلا نهائيا، لكنني أزين روحي بالموسيقى. أما أصبعي... فصدقوني الدنيا كلها أولا .... ومن ثم " أنا".

 

سلوى الارياني

 

 

 



هناك 4 تعليقات:

Unknown يقول...

حكاية صبارة جميلة و أحداث من صميم الواقع ..فرج الله عن البلاد و العباد

Yusra Al-Eryani يقول...

اسلوب شيق وقصه ذات مغزى مؤثر.

Salwa Aleryani يقول...

تسلمي يسرى او يسرا

Reem Sultan يقول...

كالعاده مشوقه من بداية العنوان حيث انك كما اخبرتك من قبل ملكة العناوين وحتى اخر كلمه التمست هم كل يمني وتذكرت معاناتي في اليمن وفكرت بالبطون الممتلئه بمال الشعب وبالبرود الذي انهى سمعة وطن .رائعه كالعاده