الأربعاء، 27 ديسمبر 2023

خيركم لأهله

 



فضيحة مدوية حلت على حينا المسالم. تسلل البلطجي المعروف لدينا جميعا الى بيت جارنا المجتهد، المكافح فضربه ضربا أدمى وجهه. سرق من المنزل الثلاجة، الموقد الغاز، الغسالة، التلفاز وقبل أن يخرج هشم زجاج النوافذ وأطلق رصاصتين صوب رأسي والد جارنا ووالدته فقتلهما، ثم خرج.

هبينا كلنا هبة رجل واحد نتفرج ونصور. مسكين جارنا. هناك من اعانه على حاله ببطانية. سريره كان قد تكسر. بعض الكرماء منا وفروا له قطن ومطهر لكي يطهر جرح غائر تحت عينه. مسكين. كلنا قلنا كلمة مسكين. كلنا قلنا اننا حزنا من اجله.

اخي الكبير هو الوحيد الذي حطم سقف كل المساعدات بعمل اسطوري. لقد خرج وفي يده عدسة مكبرة فأقتفى خطى البلطجي حتى وجد بيته.  ما أن وجد بيته حتى القى على بيته بقنبلة سرقها من مخزن كسار الحجار. تفجر البيت ومات البلطجي لعنة الله عليه. توعد اخوته واعمامه بالرد في الوقت المناسب.

اشعل خبر قتل اخي للبلطجي وسائل التواصل الاجتماعي. اخي أدهش الجميع برجولته. بنخوته، بحميته. أصبح فارس احلام كل النساء والفتيات. صار شباب الحي يمشون من امامه وهم يخافونه. بعضهم غار منه. غنى عليه المغنيين. نظم قصائد الشعر عليه الشعراء.

اما أنا.... فأعرف أخي. حتى جيراننا يعرفون أخي. لذلك اصابني الذهول. بقيت ثلاثة ايام خرساء لا انطق. الجميع يعرف اخي، كذاب لا يصدق. يعرفون انه قد ضرب ابي مرة حتى كسر ساقه. أبي الان يمشي بعكاز. مهشم الكرامة وأمام أعيننا ابوته تتمزق! يعرفون انه يبصق على رأس أمي ليل نهار. يعرفون انه يحبس اخي في قبو لأنه هاجمه عقب حادثة كسر ساق أبي. الكل يعرف فكيف يمدحونه؟ بل انهم قد رأوا اختي وهي حامل، منتفخة البطن. جميعهم يعلم انها عازبة. جميعهم يعرف ماذا يحدث. فكيف يمدحون اخي ويغنون له؟ بلا هم يعرفون! لكن لعل يوم القيامة بات مستحق!


الأحد، 17 سبتمبر 2023

"موتتان"

 


خرجت من عمارتي الزجاجية الزرقاء، ناطحة سحاب طبعا، اسكن في الدور الثلاثون. اقيم في هذه المدينة الكندية الرائعة بشتى المقاييس. اتجهت الى محطة القطار القريبة جدا من عمارتي للذهاب الى عملي.  تفاجأت ان كثيرا من المشاة يذرعون الشارع سيرا على الأقدام بعد أن ُطلب منهم النزول لأن القطارات في تلك المنطقة تم ايقافها عن العمل. لم افهم ماذا حدث فقط سمعت أطراف حديثهم. حتما حدث أمرا جم. بعض الناس يركضون لئلا يتأخرون عن دوامهم، دون أن يسأل حتى واحدا منهم" ماذا حدث؟" هم مطمئنون لأن دولتهم وحكومتهم ستتعامل مع ما حدث وستقوم بدورها. اما دورهم هم فهو ان يذهبوا الى وظائفهم. نقطة نظام! 


 

عمارة زجاجية سوداء خلف عمارتي رأيتها محاطة بأشرطة صفراء وأمامها سيارات شرطة عدة وعربتي إسعاف، اضاءتها الحمراء تضئ وتنطفئ. رجال الشرطة ذكورا واناثا يضعون نظارات شمسية غامقة يملئون المساحة الأمامية من مدخل العمارة. مشهد الصراحة يشبه مشاهد الأفلام عند حدوث جريمة اغتيال. بعض المارة من كبار السن المتقاعدون جذبهم الفضول وارادوا كسر روتين حياتهم من تمشية مع كلابهم واحتشدوا مع كلابهم محاذيين للعمارة لعلهم يسمعون أي نبأ عما حدث. هيا يا بنات افكاري اليمنية اقفزي حافية مثل راقصة بالية. حللي الوضع واختلقي الافتراضات؟ هل قبضوا على لص دخل ليسرق وحاول مالك الشقة الامساك به فقتله وهرب؟ هل رمى أحدهم نفسه من الشرفة؟ هل أفرط أحدهم بشرب الكحوليات وتشاجر مع زوجته ثم سقط أحدهم من النافذة؟  غير أنني لم افهم ما الداعي لإيقاف القطارات وتعطيل الناس عن مصالحهم. لماذا يأخرون كل الناس عن دوامهم من اجل مجرم؟ فالناس تقتل منذ ايام قابيل وهابيل فما الداعي لحالة الطوارئ هذه؟ يرفهون الانسانية في هذه الدول!

لكن الموت ليس له بوصلة. يمشي في اللحظة الواحدة في عدة اتجاهات ليأخذ هذا ويشد ذاك ويجذب تلك. هناك في بلادي البعيدة جدا عني، بلادي اليمن الحبيب حدث موت أخر. في حي سكني مدقع الفقر في مقبرة يجيء الزوار ايام الجمعة لزيارة احبتهم من الموتى وقراءة الفاتحة. لكن في ذلك اليوم كان هناك رائحة كريهة في الاجواء. تقعد متسولة عند بوابة المقبرة للتسول. لفت حجابها حول فمها وانفها من قوة الرائحة الكريهة. تدعو الزائرين للبحث داخل المقبرة لعلهم يجدون قط أو كلب ميت. لا أحد يتصدق عليها. أصبح الجميع " حالته حالة". يتلثم احد الزوار يأنبها قائلا :-" كيف تقعدين هنا برغم هذه الرائحة؟ قولي لحارس المقبرة ان يفتش لعله قط ميت." دخل بعض الزوار ينادون حارس المقبرة الذي غالبا ما يكون غير موجود في وقت الظهيرة لأنه يذهب لشراء ما يقتات به يعود ببعض قات تصدق به عليه أحد باعة القات. بعض زوار المقبرة دخلوها ثم غادروها فورا من بشاعة الرائحة. البعض تلثم لاعنا الحارس لأنه متكاسل عن البحث عن الحيوان الميت متحملا هذه الرائحة العفنة. لعنوه ولعنوا وجهه. لا أعلم لما وجهه؟

اعود مرة اخرى الى المدينة الكندية حيث اقيم، مدينة عطرة الأنفاس. استأنفت القطارات عملها وغادرت الشرطة العمارة بعد ان ازالت الاشرطة الصفراء وُسمح للسكان ان يعودوا الى شققهم بعد ان تم اخلاء العمارة. جاءت الأخبار مساء لتبدد الغموض. أعلنوا ان أحد سكان العمارة ربما هو ممن يتعاطون المخدرات قام برمي كلبه من دور عالي ليسقط ميتا غارقا في دماءه. اتهم السكان صاحب الكلب انه كان يسيء معاملة كلبه. شهد بعض الجيران انه كان يأخذ كلبه للمشي وهو يجره جر مؤلم يدفع الكلب للنباح. قالت الشرطة ان القاتل سوف يتم فحصه للتأكد من خلو دمه من المخدرات وإلا فإنه سيتم تغريمه وحبسه. جاء الرسامين تضامنا مع الكلب ورسموا على اسفلت الشارع شكل جثة الكلب وسكبوا طلاء أحمر رمزا للدماء. جاء كثير من الجيران مع كلابهم وقططهم للتعبير عن التكاتف مع الكلب المغدور به. وضعوا باقات من الزهور في موقع جثة الكلب المقتول. بكى البعض تأثرا. اشجاني المشهد حتى تجمعت الدموع في عيناي فسالت. ليس على الكلب فأنا لم يصدف حتى أن رأيته، ولست من دولة يبكيها موت كلب، لكن من سمو الانسانية في هؤلاء البشر. من فيض العدل والانصاف الموجود في هالاتهم. هذه انسانية من يعتبرهم كثير من المسلمين " كفرة"!! لكن لو اعتنقنا الانسانية فلربما كنا سلمنا من الحروب وتركنا الأديان كشأن شخصي بين العبد وربه!

نعود الى البوصلة التي تشير الى المقبرة في صنعاء. جاء في اليوم التالي زوار جدد. اسقوا الزهور حول قبور أحبتهم. غير ان الرائحة الكريهة كانت قد وصلت حدا لا ُيحتمل. دخل مجموعة من الرجال غرفة الحارس، دفعوا الباب، فصدمهم ان الحارس ميت يعلم الله وحده منذ متى. سارعوا بدفنه في حفرة كانت مفتوحة. قرأوا له الفاتحة. رحم الله امرئ لم ُيعرف قبره. الناس اصلا لا يعرفون من هو فعلا. لو لم يجعل الله سبحانه وتعالى للموت رائحة لما عرف بموت الحارس أحد. الحارس كما كان يذكره البعض شديد النحول، يظهر سوء صحته على محياه. لعل أهله يأتون للسؤال عنه يوما فيعلمون من الحارس الجديد انه مات. مات الحارس فلم تقف من اجله لا قطارات ولا حضرت شرطة ولا رمى له أحد ريحان. ذهب ذلك الشاب مع الريح. سيطويه النسيان. لا بأس، فمن منا لن يموت؟ أتراه مات ليلا ام صباحا؟ غير مهم. لا أحد مهتم اصلا بتفاصيل موته. بكل بساطة روح وراحت الى حيث تروح كل روح. قد تكون روح الكلب وروح حارس المقبرة راحتا في نفس البوصلة.

 

الأحد، 30 أبريل 2023

يا للاسف!




دخلت اليمن السوق - حاليا -لا الوطن، في يدي ورقة تتضمن قائمة ثلاث انواع من الخضروات يحتاجها مطبخنا ولم يكن هناك أي داعي لكتابتها لأنها ثلاثة خضروات فقط لا مجال لنسيانها. بصل، طماط وبطاط.  غادر اليمن منذ فترة طويلة جنودها أمان، عدل وطموح. كذلك طارت بعيدا عن السوق أجنحة الطمأنينة، الكرامة، الحرية والمساواة. لم يتركوا لنا من ضرورة مُلحة إلا المأكل والمشرب حفظهم الله وأبقاهم. الزاد ضروري من اجل بقائنا احياء. لذلك قصدت سوق اليمن لشراء متطلبات مطبخنا.

وقفت لدى البائع الأول طالبه منه كيس علاقي لكي اضع فيه الخمس حبات بصل الذي سأنتقيهن. ناولني الكيس قائلا: - " تأبى السعودية أن تترك لليمن ولو منفذ يدخل إلينا منه الاستقرار. تعبنا حرب!" ثم اضاف ان السعودية عدوة وأننا اليمنيين لن نتنفس الصعداء مالم تُهزم السعودية. لم افهم لماذا يقول لي هذا الكلام. انه كلام اولاً معروف لدينا جميعا وثانيا أنا زبونة وهذا ليس حديث مقبول بين زبونة وبائع خضروات. لم أعلق بكلمة. ما دخلني أنا ليقحمني برأينا؟ اعطيته الكيس لكي يزنه بصمت تام. اخذ مني الكيس مضيفا ان السعودية تستكثر علينا الأمان بينما هي مقبلة نحو نهضة عمرانية واجتماعية عظيمة. التفت الىَ ملاحظا أنني لم اتفوه بكلمة، وبخني غاضبا: -" أنتِ من المرتزقة؟ هاه؟ استشعرت إنك منهم. لا أريد أن يشتري مني مرتزقة. اذهبي."  وكالعبيد ذهبت. لم اقل له المكممون لا يتكلمون، فكيف أتكلم؟ لم اقل له انني في زمن علمني الصمت والخوف ويعلم الله ماذا بعد سأتعلم؟ انا جئت اشتري بصل فخلي لي حالي! ابتعدت منه وهو لا يزال يغمغم ان البلاد لن تصفو لليمنيين الا بتطهيرها من المرتزقة. وهل شراء بصل هو ارتزاق فماذا ُيسمى إذا من يبيع اليمن يوميا جملة ووصلات؟

وقفت لدى البائع الثاني وأنا التقط انفاسي. اتعبني البائع الأول، ما مشكلته معي؟ جئت لأشتري بصل وليس لكي اتجرأ على الكلام في السياسة. سمعته وأنا ابتعد يرفع صوته قائلا ان العملاء لابد من قصقصة رؤوسهم لكي تصفو البلاد لأهلها. لم أعلق ولا حتى نظرت اليه نظرة احتقار. البائع الثاني تفحصني من رأسي حتى أسفل قدمي كأنني ما جئت لشراء خمس حبات بصل بل تقدمت لنيل لقب ملكة جمال الباقيين في اليمن.

وقفت أمام البائع الثاني اطلب منه كيس علاقي اضع فيه البصل الذي سأنتقيه وانا متوجسه منه شرا. هناك رجال كثر ويتكاثرون متخذون من المرأة شماعة. فإذا سقط على وجهه في الشارع قال ان البنات العابرات في الشارع غير محتشمات وانه لم يستطع غض البصر فلم يرى الحجرة فسقط على وجهه! حتى ثلة من الفاشلين يعزون بطالتهم من أن الفتيات يستأثرن بالوظائف. هناك من يظل نائما طوال يومه ويبرر انه لا يملك تكاليف الزواج وهو اساسا شاب نائم لن تقبل به أي فتاة. اعطاني البائع الثاني الكيس وهو يسألني: - " الا أخ لديك او زوج يأتي هو ليشتري مستلزمات غدائكم؟" تعجبت مما قال لأنني قصدت محل بيع خضروات لا دكان ختانة! تركته هو ايضا وذهبت للبائع الثالث. كان البائع الثالث هذا يتابع محادثتي مع البائع الثاني. للأسف الرجال الذين يؤمنون ان البنت شقيقة وشريكة.  انها جديرة بالاحترام، التقدير وتستحق ان تحيا حياة كريمة كلهم رحلوا من اليمن السوق ولم يبق فيها الا هؤلاء الباعة! وقفت أمام البائع الثالث وقد بدأ شيئا يشبه الخوف على نفسي يسري في روحي. لاحظت ان خضاره ليس طري فتركته هو ايضا بسعادة. فيما بدا لي انه اغتاظ كونني لم اشتر منه فسمعته يقول: -" الله يستر على بناتنا. صرن يزاحمن الرجال بالأسواق!" تمنيت لو لم أكن رعديدة لألتفت اليه واخبرته ان النساء في الدول المتقدمة يتنافسن مع الرجال على بلوغ القمر وليس على شراء خمس حبات بصل، يا بطل! لكنني لم انطق بكلمة.

وقفت أمام الرابع ونويت أن يكون الأخير. بادرني قبل ان اطلب كيس أنه يتفق مع البائع السابق واضاف: -" لديه كل الحق. السوق للرجال. النساء مكانهن في البيوت معززات مكرمات." كدت اقهقه في وجهه غير أنني ابتلعت ضحكي. هو نفسه لا معزز ولا مكرم فمن إذاً سيعز المرأة ويكرمها؟ رأيت فتاة تقف على مقربة منا. المشهد شجار. كان شاب يهاجمها لأنها تعلق على كتفها شنطة بيضاء متسخة. قائلا ان اللون ملفت ومغري. استعجبت كيف لحقيبة ان تغري؟ ثم صاح أن "ارحمن الشباب غير القادر على الزواج." تأملت حقيبتها واشجتني حالتها. زرها متدلي، متسخة، فاضية ولونها ابيض! شعرت ان لو كانت تلك الحقيبة تتمني لتمنت أن تطير. التفتت الىَ الفتاة ورأيت في أحداقها طوق نجاة، لعلها وجدتني كذلك. اقتربت مني كأنها تتوسل دعم. انا تعلمت مؤخرا الصمت والخوف ومثلي و يا للأسف لا يدعم.

تلك الفتاة تختلف عني كثيرا. صوتها عالي وصرخت في وجه البائع ان يحترم نفسه. قوية، لكن مما لا شك فيه انها كانت مثلي خائفة. قام البائع بدفعها بيده الملفوفة بالشال صارخا فيها ان تخرج من السوق. نحن يا يمن نشتري بصل فلم لم يعاقب أحد من باع اليمن؟ التخلف والرجعية باتت في اليمن كالوباء. يتجمعون على سيرة الإناث ويتركون جثة الوطن ملق على قارعة الطريق.

امسكت الفتاة بمعصمي وتراجعنا بضع خطوات للخلف. شعرت كلا منا بالحاجة للهروب. قال مشتري كان يشهد الموقف أن النصر لم يتحقق في اليمن بسبب البنات! خفنا لأن شعور الشماعة سيء. استدرنا وخرجنا من السوق وسط اصوات متعالية متداخلة. هربنا بخطى ليست ركضا لكنها سريعة. حين ابتعدنا سألتها لماذا جئتِ الى السوق؟ اجابت ضاحكة انها ما عادت تذكر. اما انا فطبعا لا اذكر ايضا... من يذكر؟ ربما كنت اريد ان اشتري خس. انسونا الهدف، ماذا كان الهدف؟ ماذا كان الهدف؟ هؤلاء الناس انسونا الهدف.  يا للقرف!

 

 

الأربعاء، 1 مارس 2023

توغل

 



عودت نفسي منذ دمرت الحرب اليمن واهلها، اثرت الكثيرين كثيرا ،ان اعطي كل ما يتبقى من افطارنا، غدائنا، عشاءنا، حلويات او معجنات قدمتها لضيوف، خبز فاض عن حاجتنا اعطي ما اجده في يدي للمساكين ولو كان قليل. فإن القليل الذي اعطيه ولوكان قليل فإنه سيسعد مسكين يأكل قليلا ايضا لكن من القمامة. بالتالي اكلي سيسعده لأنه نظيف وفي رأيي الطبيعي من كل انثى ان ما تطبخه لذيذ المذاق. باختصار انا أحب اعطاء المساكين لدرجة بت اعمل حسابهم وانا اطبخ أي شيء. أخشى يوم قريب أكبر فيه لأصبح عجوز اعطي المساكين حتى ابات انا في ركن من اركان بيتي جائعة. ذلك لأن لدي جينات ورثتها من خالة لي كانت ملاك يمشي على قدمين. كانت تعطي بلا تفكير -أدعو الله ان يشفع لها عطاءها فتدخل الجنة يوم الحساب منيرة الوجه.

المسكين اليمني الذي بات يشارك الكلاب الاكل من القمامة. يأكل مراقبا من يراه تحرجا ويمضي سريعا. منهم من يجمع في كيس بقايا يأخذها لعائلته. تعطل زر الانسانية لدى كلانا. أعتاد هو ذلك الأكل من القمامة بينما اعتدنا نحن هول المنظر فلم يعد يثير فينا أي ردة فعل عملية غير مزيدا من الصدقات. لكن ما عاد أحد يجرؤ على السؤال: - " كيف يأكل اليمنيين من القمامة ومسئولينا غير المحترمين تجلس كروشهم على افخاذهم اذا ما جلسوا ." طبعا نحن ناس واقعيين ندرك تماما ان المسئول لابد ان يشبع لكي يستطيع ان خدمة شعبه لكن ان يأكل دون حياء، وبلا حياء كذلك يعرف ان شعبه يأكل من القمامة ويعامل الأمر كخبر في بلاد الواق واق فلا يتحرج من الكرة الكبيرة التي يتحرك بها، للتذكير هي " معدة" لا حاوية في عرض البحر!  هذا ما يُصعب تحمله.

انا اليوم اعترف انني لا اعرف كيف دخلنا في هذه الغيبوبة الجماعية؟ كيف تركنا الوحوش والضواري بيننا يدفعون يمنيين مثلنا دفعا يقتاتون من " قمامة"؟! كيف؟ كيف اعطينا  للمجرمين ظهورنا ينهشون اكباد من هم لنا فلذات الأكباد؟ نرى الدماء تنقط على الأرض نقط حمراء فنتناقش ان احمر الشفاه الذي تضعه النساء لهو اس أزمة بلادنا اليمن. نتجنب الذكر ان النقاط الحمراء هي دماء ابنائنا ونكذب ثم نصدق انها نقاط احمر شفاه. ثم ننشغل صبحا ونهارا وليلا نتفاوض كيف نحد من استخدام احمر الشفاه في عموم بناتنا ونسائنا. ما هو احمر الشفاه؟ احرقوه؟ توغلت التفاهة فينا. توغل فينا صمتنا الذليل. صمتنا عن هؤلاء المخيفين يتحكمون بما وهبه لنا الله من حياة وكرامة؟

اصيب كثير من اليمنيين واليمنيات في مختلف الأعمار وبنسب غير مسبوقة بأمراض القلب. انا اجزم ان السبب معروف. السبب اننا لم نترك للقلب حاله ينبض! النبض هو وظيفة القلب التي خلقها الله للقلب. في اوروبا والدول المتقدمة هو كذلك للحب. اما عندنا فهو عمارة  آيله للسقوط يسكنها الحزن، حزن بثقل جبل شاهق، بثقل صخوره الوعرة. طبعا النتيجة الطبيعية لرؤية ناس مثلنا تأكل من القمامة هو مرض القلب. جعلنا من انفسنا شعب بلا حول ولا قوة  لكن قلوبنا حرة. عبرت عن حزنها فمرضت!

كلما خرجت وفي يدي بعض الطعام مما قسم الله اعطي اول مسكين اراه والمساكين كما تعرفوا كثر. فكانت النتيجة ان اعطي شاب بائس بعض الاكل مشفقة على شبابه كيف يقضيه. قبل ان امضي في طريقي يكون هناك مسن يتأملني بعتب. فيحفر الذنب ضميري، اما كان المسن أحق؟  اما إذا اعطيت المسن المح نظرة العتب الجائعة من عينين جميلتين من بين نقاب حولت الشمس سواده الى اللون الرمادي. فأحاسب نفسي ان المرأة كانت أحق من المسن الذي وإن كان مسن فهو رجل خلقه الله اصلب واقوى في التحمل. اما ان اعطيت امرأة هرع الي طفل، فأحلف يمين الله ان الطفل أحق الجميع. طفل كل ذنبه هو كون امه انجبته متسولا. باختصار...كانت الصدقة مما يفطر قلبي لدرجة انني كنت احيانا اضع يدي عليه لأنه كان يوجعني فعلا لا تعبيرا في سطر قصة.

 

احد  الايام كنت سعيدة لأنني اشتريت عشرة سندوتشات شاورما اشتريتها لأهديها للمساكين الذين اعرفهم في حارتنا ولا يعرفون مني الا البقايا. خرجت اقود سيارتي الى عملي وكيس الشاورما بجانبي. اتلفت يمين وشمال بحثا عن مساكين كل يوم الذين يمشون اسراب عصافير باكرة. غير انني لم اجد أحد. استغربت. اين ذهبوا؟ اليوم معي عشر شاورما جديدة.

بقي دقائق ويبدأ دوامي فقررت ان اول مسكين سأجده سأعطيه الكيس وهو يوزع السندوتشات كيف يرى. لكن اين مساكين اليوم؟ على ذهولي واستغرابي وجدتني مضطرة للذهاب الى مقر عملي. رأيت من بعيد شجرة محاذية لبنك امر منه يوميا وانا ذاهبة الى عملي. لمحت مثل كيس كبير ملق تحت تلك الشجرة. اوقفت سيارتي ونزلت. فإذا هوجسم ، انها ام...سأوقظها واعطيها الشاورما لتوزعها كيف تحب. دققت في وجهها فوجدتها فعلا ام... ناديتها فتطاير الذباب من فوقها. حركت كتفها العظم غير انها لم تستيقظ. لك أن تتوقع يا قارئي اين ذهبت؟

ذهبت الى حيث لا تأكل لا شاورما ولا بقايا طعام. وضعت الشاورما بجانبها والقيح يقطر من الكيس. اوجعتم يا مساكين اليمن قلوب سندوتشات الشاورما وقلوب المسئولين تناقش كيف تتوغل أكثر. بكيت عليها حتى شهقت وها انا عدت الى بيتي دون ان ألقي مسكين واحد لأكتب ان المساكين في اليمن كلهم ماتوا جوعا.

 

سلوى الارياني