صحوت بعد منتصف الليل ، غرفتي حالكة السواد. اترك نصف ستارة نافذة غرفتي مفتوحة لكي يتسلل
الى الغرفة ضوء نجوم سماء اليمن و قمرها "و لو كان حزينا " ، لأرى ما
حولي اذا صحوت اثناء الليل.
فتحت عيناي تلك الليلة ، قبل أن اترك فراشي رأيت على
الجدار ظل منعكس لقامة طويلة، مخيفة تمتد من جدار الغرفة و يصل رأسها للسقف. يعلو
رأسها نقاط سوداء كأنها اكليل من عتمة. لأول مرة ابلع ريقي خوفا! تأملت بذعر بالغ
ذراعيها النحيلين الطويلين، كأنها عظام هيكل! كان قلبي يدق مليء مسامعي كأنه قرع
طبول. راودني هاجس انني سأموت خوفا. أخبأت
نفسي تحت فراشي و استرقت النظر الى القامة الممتدة على جدار غرفتي. كانت القامة ترفع ذراعيها الى الأعلى ثم تبرز
اصابعها مسنونة كأنها مخلب وحش يوشك على الافتراس. فتحت فمي لأصرخ، لكن كان قد ُشل
لساني. حاولت ان استجمع قواي لأستطيع مقاومة هجوم هذه القامة حين تنقض علي. سمعت
فحيح ، او نداء عاليا، سددت من ضجيجه اذاني. كان يناديني باسمي مدويا كأنه قنابل تتساقط
على مسمعي. لمن هذه القامة و من اين تعرف
اسمي ؟
قرأت المعوذتين ، ومع اضطراب نبضات قلبي نطقت بالتشهد. يموت الناس في
بلدي- منذ بعد الحرب - دون أن يأبه لموتهم احد. يا ربي ، لا تسامح من اضاع اليمن ،
و هل يا ربي تعود ؟ نحن بانتظارها و لو انتظرناها الى الأبد. كانت القامة الطويلة تقفز من جهة لجهة في
الغرفة كأنما تلاحق شيء خفي . هل انا اهلوس؟ هل انا في كابوس؟ هل انا محمومة؟ لا ،
والله انني فعلا اراها امامي.
انا بطبعي جريئة ، و علمني
والدي الا اخاف احد ! قمت من فراشي و مددت يدي المرتعشة محاولة لمس القامة
ففاجأتني انها تقفز من جهة لجهة و لا تسمح لي بملامستها. ما هذه القامة؟ هل هي جن؟
رأيت باب غرفتي موصد ، كنت احس داخل ركبتي جدولي ماء. لكنني ضاعفت عزمي ، ركضت ،
فتحت الباب و فررت من غرفتي. لبست حذائي ، حجابي و هربت من بيتي الى الشارع. يا
للفاجعة! بيتي مسكون! ويح قلبي على
بيتي!
في الشارع ادركت ان الصباح بدأ يتجلى. مشيت قليلا. احاول ان اعيد
انتظام دقات قلبي. كنت استرجع ما حدث كأنه كابوس او فيلم رعب.
رأيت في شارع بيتي اكوام قمامة يقتات منها اطفال و رجال و كلاب . انهم
رفقة وعيش و ملح القمامة! يعلو رأسهم الذباب. ذكرت ان القامة كان يعلو رأسها نقاط
سوداء لعلها هذا الذباب. اشحت بوجهي
ومشيت. يؤلمني منظر كهذا لا استطيع لدفعه شيئا. و لو اطعمت هؤلاء الاطفال من يطعم
باقي الأطفال؟ وجدت خط طويل من السيارات تقف في طابور من محطة بترول حتى شارع قريب
من بيتي. خيط السيارات كأنه أفعى. تأملت وجوه الناس المنتظرة دورها بعد نصف قرن.
وجوههم حزينة صحيح ، لكنني هذه المرة رأيت مسحة غضب . رأيت اياديهم ينبت فيها
مخالب تشبه مخلب القامة الذي رأيته مدبب. انه مخلب حمامة اذا كتفتها و نزعت عنها
جناحها ، صدقني ستتحول الى وحش !
يا اللهي ، انظر اطفال اليمن يقتاتون من القمامة. يا اللهي انظر شعب
اليمن يقف في طوابير تمتد من الحياة الى الممات الى يوم القيامة. يا رب ، خلص
اليمن من بين براثن ابناءها. اعد الينا يا رب كرامتنا ، يهون كل شيء الا الكرامة.
أمنا يا خالقنا فوق ارضنا و اوقف هذه الطائرات التي تقصفنا من سمانا و اكتب لنا
السلامة.
واصلت سيري. دخلت مخبز. اشتريت خبز اصبح بحجم دبلة زواج او محبس . اما
السعر فغالي نار. كيف يأكل الناس الذين لا يأكلون من القمامة؟
رأيت اطفال طلاب. يمشون حاملين كتابين في كيس. ما عاد بمقدور اهلهم
شراء حقيبة. يركلون قارورة معدنية فارغة كأنها كرة. يلحقون القارورة من اليمين للشمال
في الشارع. ذكروني و هم يقفزون من جهة لجهة بالقامة و هي تنتقل من جدار لجدار في
غرفتي عندما حاولت لمسها. انهم لا يذهبون للدراسة ، انما المدرسة باتت عذر للهروب
من البيوت . اما المدرسة فلا عاد فيها مناهل علم سيفوتهم الارتواء منها، ولا عاد
فيهم نهم اصلا للعلم.
سمعت في تلك اللحظة طائرة. نحن اكثر ناس لا ينقصنا قصف طائرة. نحن ناس
ُنقصف ليل نهار. بالجوع ، بالإهانة يوميا ليل
نهار. قصفت الطائرة عطان. سمعت الدوي. ذكرت صوت القامة يناديني باسمي ، مدويا مثل
هذا الانفجار. ما اشبه القامة باليمن.
اصبحت اليمن بعد ثلاث سنين حرب مرعبة! لذت ببيتي عائدة! فتحت باب بيتي و باب غرفتي.
دخلت و اوصدت الباب. ليلا عندما انام ، و تأتي القامة... سأرحب بها فهي برغم شبهها
باليمن لكن رعبها ارحم من رعب اليمن ، سأرحب بها ، و اصافحها لا بل و سأضرب لها تعظيم
سلام.
سلوى الارياني
2017-11-24