بالمنطق!

 



                                          

من خلال طبيعة عملي كأستاذة لغة إنجليزية في معهدين لمدة تزيد عن ثلاثة عشر سنة فإن تعاملي وتعايشي مع الشباب والشابات كبير جدا. هو تأمل – إن جاز لي قول ذلك – عن كثب في مخلوقات بشرية حية ملموسة واضحة جلية أمامي. اتكلم عن جيل، رائع، مجتهد وطموح. انا لا اتكلم عن مخلوقات فضائية لم اقابلها. لا أتحدث عن ارواح موتى لا يعلم بما تكون عقب الموت الا الله. لا اكتب عن جن ولا انس ولا عفاريت. أستطيع اليوم بعد اقرار فرض عدم الاختلاط بين الشباب والشابات في شمال اليمن في دور العلم وصروح الثقافة والتي مستقبلا تخلق انسانا يبني وطن وتفتح للطالب/ة ابواب الوظائف العديدة، أستطيع أن اقول رأيي الشخصي بصرف النظر عمن يتفق او يختلف.

نحن اليوم في عهد عقليات تعتنق التفكير بشكل حسي جسدي بحت، كأنما البشر ليسوا بشر، بل حيوانات. وتحديدا غزلان ونمور. هذه النظرية لا يجوز تطبيقها على شباب اليمن وشابات لأنها نظرية مختلة تشير بأصبع الاتهام الى ان صاحبها مريض إما نفسيا أو عقليا لكن مستحيل ان يكون سوي او طبيعي.

لماذا الفصل والله خالق الكرة الأرضية لم يفصل؟ الله خلق الذكر مع الانثى في ذات الكواكب والكواكب عديدة لو أراد. الله لم يفصل وهو قادر ان يفصل إن شاء. بالتالي فإن الفصل قرار يعارض نظام الله ويجري بعكس تيار فطرة الله. سيقول من قال هناك تصرفات مشينة، وسلوكيات تستوجب الردع، هناك علاقات محرمة، هناك قصص حب، وقصائد عشق، هناك مغازلات وتحرش. هناك وهناك. هذا الكلام سليم وحاصل حقيقة. لكن هل الفصل يمنعه؟ لا والله إن هذه التصرفات "غير الأخلاقية منها فقط" تحدث بشكل سري لا يخطر على بال أحد. ضف إلى ذلك أن التصرفات المشينة هي قلة قليلة واستثناءات لا تشكل حتى نسبة من الشعب اليمني.  انظروا في الورقة البيضاء الناصعة وافتخروا بجيلنا الرائع هذا، انظروا الى بياض الصفحة لا إلى نقطة سوداء صغيرة هناك في زاوية الورقة لا ُترى بالعين المجردة. الشعب اليمني من الطفل إلى الكهل متمسك بتعاليم ديننا الاسلامي ويخاف الله حبا لا غصبا. شعبنا اليمني دونا عن كل الشعوب العربية الأخرى هومن يذكر الله في كل لحظة ويحاسب ضميره بنفسه. هو المصلي والحامي للحرمات. هو من لديه غيرة وحمية تجاه المرأة. شعبنا اليمني مستور، فلما ُيفرض غطاء على مجتمع هو اصلا مستور. كيف؟ ليس فقط كيف. بل كيف ولماذا؟

عملت في عام 2008 في معهد وقت كان الاختلاط طبيعي ومسموح. كنا نحن الأساتذة نطلب من الطلاب ان يجلسوا في مجموعات او حلقات من أربع الى خمس طلاب ليحلوا تمرين سويا. وقتها لم يكن في جلوس الشباب والشابات في حلقة يحلون تمرينا أي شيء يوحي بالوساخة او إثارة الغرائز. كان الشباب بشر، مهذبين ولا يزالون والبنات بشر، مهذبات ولا يزلن. يدركون انهم اتوا هنا للدراسة فيتنافسون. كان الشاب ينظر الى زميلته انها فتاة ذكية تجتهد، متوثبة لتعلم اللغة لنيل الوظيفة المرموقة ان شاء الله. كذلك كانوا يقرأون ويجيبون على الأسئلة. يتكلم الشاب امام وجه البنت عن ُقرب لأن الحلقات صغيرة فتنظر اليه وتسمعه ثم يتناقشون بنات وشباب. تسأل البنت زميلها الشاب إذا كان متفوقا واحتاجت الاستفسار عن سؤال في التمرين. فيساعدها دون أي وساخة. العكس طبعا صحيح ايضا. أن يسأل الشاب فتاة متفوقة وما أكثرهن. المجتمع اليمني ليس وسخ يا جماعة ليس وسخ! احيانا يتناقش الطلاب عن موضوع في الكتاب. أيهما أصعب الإقامة في الريف ام المدينة؟ لم يكن يحدث وقتها أي شيء مناف لأخلاق المجتمع ولا شيء يخدش الحياء العام. كان الطلاب اخوة واخوات. مما لا مجال لإنكاره انه كان يحدث ان ُيعجب شاب بفتاة او ُتعجب فتاة بشاب. هذا شعور طبيعي يحدث حتى بين جيران في حارة اوفي نطاق ابناء الأعمام والأخوال في الأسرة الواحدة. مرات طالب وطالبة يقدمون عرضا امام بقية الزملاء عن أي موضوع يختارونه مثل مثلا اضرار ومنافع الانترنت، اوعن سقطرى أو عن كرة القدم اوعن الام. في كل يوم يقدم طالب عرضه التقديمي Presentation)) طبيعي ان يرتبك وُيحرج الطالب/ة عندما يشعر بأنه محط انظار. طبيعي ان ترتعش يده إذا كان ممسكا بورقة يتذكر منها ما يريد قوله. طبيعي ان يحرك قدمه الى الامام والخلف من شدة التوتر من نظر الجميع اليه واستماع الكل اليه. طبيعي هذا كله طبيعي. كثير من الشباب الجريئين كانوا يقدمون هذا العرض التقديمي بشكل رائع فنجد الطالب يتكلم وهو يتحرك داخل الفصل. يتكلم ويلقي اسئلة. ثم يسأل في نهاية عرضه التقديمي الطلاب اسئلة عما قاله فيزداد استمتاع الطلاب بعرضه التقديمي ويأخذ في النهاية تصفيق عالي ودرجة ممتازة. هكذا كان العرض التقديمي ايام الاختلاط. كان ينمي الثقة بالنفس ويعطي مساحة للتميز.

اما في عصرنا المعتل هذا حيث كوكب للرجال وكوكب للنساء، فالوضع أكثر من كارثي. صار الـ Presentation) ) اشبه ما يكون بمخاض متعسر او عقاب على أقل تقدير يجعل عدة طلاب يتغيبون عن المعهد في يوم دورهم بالعرض التقديمي. صار مسألة حياة أو موت. صار أكون أو لا أكون. ليس بسبب النشاط نفسه، لا فالطلاب متفوقين واذكياء ومنهم النوابغ المذهلة. لكن بسبب خوف البنات من الشباب من شدة ما يتم اخافتهن من الشباب وحرج الشباب من البنات لأن الشاب بات لا يتكلم الا مع امه واخواته. تتفرج الطالبة على زميلها يقدم العرض التقديمي كأنما تتأمل مخلوق فضائي ينتمي لعائلة أفتار. بينما يتفرج الشاب على عرض زميلته التقديمي وهو ينظر الى الأرض كي لا يتهمه أحد بالنظر الى فتاة حتى لو كانت هي محور الاستماع. صار العرض التقديمي اشبه ما يكون بتوعك صحي بعد أن كان فرصة ذهبية للانطلاق والتحدث بطلاقة وللتميز المبهر. أنا لا أخفي أحد بل ها أنا أعلن في مقالي هذا ان قلبي يا ناس " وجيع" على جيل الشباب هذا فهم الضحية.

 العرض التقديمي بات شفقة يومية اشعر بها وأنا اتفرج على طلابي. طبعا ليس الكل. فهناك من لم يمس الفصل بين الشباب والبنات أي جزء من شخصيته. كذلك هناك بنات لهن وظيفة الضوء في العيون جريئات قويات ناجحات. انا هنا لا أتكلم عمن لم يتأثر بالفصل لأنهم قلة ُتعد على الأصابع. لكنني أعني بمقالي هذا ان أطلق صرخة استغاثة من قبل اولئك الذين كسرهم الفصل وحولهم الى غرباء في ليل دامس.

ما دفعني للكتابة اليوم هو ما حضرته مؤخرا من عرضين تقديميين لطالب وأخر لطالبة في فصل أخر. الطالب لغته قوية وكان عرضه التقديمي ممتازا، تكلم عن الحرب. فأنصتنا اليه جميعا. ثم لاحظت انه ما أن يلتفت الى الجهة التي تجلس فيها البنات كان يرتبك في الكلام. من شدة تحرجه من لخبطة كلامه كان كردة فعل عكسية يحك كتفه الأيمن. حك أول مرة قلنا لا بأس كلنا نحك ما يحكنا. لكنه تشنج فحك بشكل متواصل. بدأ زملاؤه يكتمون الضحك وأنا أشفق. ما هي الا دقيقة حتى بدأ الكل يحك انفه أو يده. انتشر الحك كعدوى! قد يبدو المشهد كوميديا أما أنا فأحزنني. انه طالب ممتاز لكن أربكته المخلوقات الفضائية ذات العيون الوسيعة التي تنظر اليه وهو من لا ينظر اليه الا اصدقائه الذكور. احسست ارتباكه بذلك الشكل الكبير دليل فشل قرار الفصل. من يفرح بجيل يهتز أمام زميلاته؟ انه قرار لا يؤدي للعفاف فالعفاف من داخل النفوس ينبع ولكنه يؤدي للشروخ فوق ارض المجتمع. أفرغ الطالب من عرضه فصفقت وأنا واقفة مثل برامج المسابقات الغنائية لكي أشجعه وصفق له الفصل شبابا وبنات فشعر هو بمواساة. ابتسم عائدا الى مقعده.

اما عرض طالبتي التقديمي فكان هورر موفي! قامت الطالبة منذ بدء عرضها ملتفته جسما ووجها الى أنا تحديدا. احسستها لا تريد أن ترى وجه أحد ممن يستمعون اليها. فقط أنا. سقطت الورقة من يدها عدة مرات فأسارع بالتقاطها واعادتها الى يدها الراجفة. من كثرة عدد سقوط الورقة من يدها حتى أنني لم أجد مجال للجلوس لإنصات إليها فظللت واقفة حتى أسعفها بإعادة الورقة ليدها. اشفقت عليها جدا. تقرأ بشكل سريع لدرجة أن احدا منا لم يفهم عما تتحدث اصلا. انا خمنت انها تكلمت عن حيوان " الباندا" لأنني سمعت أكثر من مرة كلمة باندا. اشرت اليها ان تنظر الى الفصل بمن فيه فهزت رأسها بالرفض. اشرت اليها ان تلتفت طيب الى زميلاتها التفتت مرة واحدة سريعة واعادت تركيز نظرها الى انا. في تلك الأثناء حدث شيئا مرعبا في عيني الفتاة. حيث ارتفع البؤبؤ ولم ارى وسط الشق الرفيع من عينيها شبه المغمضتين الا بياض العين. خفت! قمت اوشوشها ان تجلس لترتاح وأن ُتنهي عرضها عند هذا الحد. غير انها كانت كمن يحتضر ويأبى الانصات لمن ينطقه الشهادتين. واصلت تقديمها وانا اراقبها بهلع كبير خشية أن تفقد وعيها عقب هذا المجهود العصبي الكبير. او أن تفقد وعيها.

والان....    لدي سؤال. لماذا تفعلون هذا بجيل اليمن القادم؟ لماذا تشوهون مستقبل اليمن بهذا الشكل؟ لماذا تجبرونه على الحياة في كوكبين وقد خلقنا الله في كوكب. لماذا تخلقون منه جيل مرتعش، مهزوز فاقد الثقة بنفسه ولا يشعر بالأمان تجاه الطرف الأخر؟ من أجل مثلا الأخلاق والإسلام؟ هيا للعلم، برغم ما تفعلونه فالصايعين والصايعات لا يزالوا موجودين. كذلك المحترمين والمحترمات لا زالوا أغلبية ساحقة في مجتمعنا المتدين بالفطرة. هم – أي المهذبين والمهذبات – ليسوا نتاج لفصلكم كل جنس لحده بل هم محترمين من منازلهم، من أسرهم. من الأم والأب والأخ والأخت!

كم أتمنى أن نعي جميعا ان الفصل لم يمنع يوما فاحشة ولا جريمة زنا لكنه يمنع جيل قوي طبيعي على فطرته يبني وطنه. اقول قولي هذا داعية الله أن يمن على متخذي القرارات في اليمن برجاحة العقل لا بالحركات والمظاهر.

 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال