قصص الهيانة: الجزء الخامس: ضحك في عزاء



كان عزاء  رجل الأعمال الشهير و الثري ملئ بالمعزيات للأرملة و بناتها. في بوابة الفيللا عشرات المساكين و المتسولين يتجمعون عند باب الدخول و رصيف الشارع و تمنعهم الحراسة من الدخول ، و اعطوهم مبالغ من المال و بعض التمر من الذي يوزعونه للمعزيات. يدخلن المعزيات و هن يتحدثن عن ثراء المرحوم ، يخرجن و هم يتحدثن عن ثراء المرحوم. يتحدثن عند وصولهن الى منازلهن مع أهل بيتهن عن بيت المرحوم ، أبهة أثاث المرحوم ، عن البنات الكثيرات اللواتي يقدمن القهوة و التمر و البنت في الباب التي تسلم مصحف فاخرو مسبحة رائعة لكل داخلة لتقديم العزاء لعائلة المرحوم. كان الديوان الطويل العريض بمفارشه الصيني الفاخرة و نجفه المهيب المتدلي من السقف يشبه نجف الجوامع مكدس بالنساء المتشحات بالسواد. في الصالة درج حلزوني فخم يؤدي الى الدور الثاني. النقوش و الزخرفة الخشبية تجعل للسقف اطار. حتى المرأة التي ترتل القرآن في شكلها هيبة و اناقة.

ليلا غادرن كل النساء المنزل فاحتضنت الأرملة صغيرتيها و بكين حتى نمن. في منامها حلمت أرملة رجل الأعمال الذي كان في اوسط اربعيناته ، ان زوجها جاء ليزورها في منامها و كان كهل عجوز بلا اسنان. وشوشها في اذنها كفحيح الأفعى ( لن ترتاحي مني ، و إن كنت قد اتعبتك كثيرا !) انزعجت من هذا الكلام وانقبض قلبها.
كان زوجها يغدق عليها من نعم الدنيا و لم يؤخر عنها مطلب. كان يغدق عليها من الذهب ، السيارات، الثياب، العطور، السفريات ، افضل المدارس لبناتها، الكثير من المال في خزنتها. كان لديها حمام سباحة و غرفة للبخار. لكن لعله قال لها في المنام "لن ترتاحين مني" كونها ومنذ بداية زواجهما و هي تكتشف مغامرات له مع نساء متعددة. كانت تعيش سلسلة من الخيانات. كان باستمرار يأتي اليها من يسرد تفاصيل خيانة زوجها ، تواجهه  فينكر. بعد الإنكار تحاصره بالأدلة فيعترف معتذرا و يقسم بالله انها المرة الأخيرة و ان البنات هن من يتحرشن به. صباح اليوم الثاني لاكتشاف الخيانة حيث تكون هي قد هجرت غرفتها معه ، يقدم اليها علبة فاخرة فيها طقم ذهب مذهل. كم هجرت سريرها و عادت اليه و كم رصت علب الذهب! تدمع عينيها حين تتذكر تفاصيل اول خيانة عقب سبعة أشهر من زواجهما. مرارة تلك المرة كونها كانت الأولى لا يزال طعمها في طرف لسانها.  ثم اكتشفت الخيانة الثانية و السابعة وصولا للثالثة عشر ثم توقفت عن العد. اما الخيانة الأشنع ، التي اهانتها في الصميم مع شابة اثيوبية جسمها رائع. ليس فيها سوى قوامها و لم تكن حتى من الاثيوبيات الحسان. لم تكن تعرف سوى ان في زوجها داء ، انه يتلذذ بالخيانة و يتلذذ بالإهانة و يتلذذ بالحرام لكن برغم ذلك كانت تواسي نفسها انها بخير هي و بناتها و ليذهب هو ومن يملك من الغوان الى الجحيم. سيكون غباء منها ان تترك لهن هذا النعيم الذي تستمتع فيه. هكذا نصحتها اختها عندما غلبها الدمع امامها وحكت لها عن مسلسله الذي لا ينتهي من الخيانة. كانت تعرف انها اذا طلبت الطلاق ثأرا على كرامتها التي يهدرها بشكل مستمر سوف تعاني ماديا و اجتماعيا. اصبحت كلما اكتشفت قصة خيانة تتصرف بشكل مخطط له مسبقا بلا أي استياء نهائيا. تهجر فراشها ليلتين او ثلاث ،  يقدم اليها علبة ذهب ، تعود الى غرفتها. اما قلبها فكان قد تحول الى وكر من العقارب. تسامح المرأة على أي شيء الا كرامتها. كانت باستمرار في صلاتها تدعو ربها :-" جازني يا رحيم على صبري. يحسدني الناس على ُملكي و قصري ، لا يعلمون كم صبري. يا رب اكتب لي... بعد هذه الدنيا جنة."
في اليوم الثاني للعزاء كن النساء يدخلن بالعشرات ، بعضهن لا يعرفنها و جئن فقط لرؤية القصر. دخلت سيدة محمرة الأنف منفوخة العينيين ، صافحت الأرملة قائلة:- " عظم الله اجركم و اجرنا .أم فلان ابن فلان الفلاني." لم تصدق الأرملة ما سمعته و شكت ان تكون سمعت غلط. التفتت لشقيقتها الجالسة ملاصقة لها و هي تستفسر بذهول :-" هل سمعتي ما قالته هذه السيدة ؟  قالت بأنها  أم من ؟" اجابتها شقيقتها و هي تقلب شفتيها :- " كلا، لم اسمع." وثقت الأرملة ان سمعها خانها مثلما زوجها خانها طوال عمره. التفتت الى المرأة التي جلست في اقصى الديوان. امرأة في بداية الثلاثين ، اصغر منها ببضعة سنوات. مقبولة الوجه. كانت المرأة تبكي و الأرملة تتفرس فيها. انها تبكي زوجي؟ من هي؟ عقب نصف شاعة من تبادل النظرات بين الأرملة و هذه المرأة الباكية ، قامت هذه المرأة لمغادرة المكان غير ان الأرملة اشارت اليها ان تأتي اليها بيدها. اقتربت منها فعاجلتها الأرملة و قلبها يدق سريعا حتى يكاد يرتمي ارضا و يقف:- "عفوا ، ما سمعتش ، بيت من انتوا؟" اجابت :- " انا ام فلان ابن فلان الفلاني." تساءلت الأرملة و عينيها تتسعان :- " فلان الفلاني من؟ المرحوم؟" همست المرأة وهي تنحني صوبها كي لا يسمعن المعزيات :- " عدجي نتكلم وحدنا بعدما يكمل العزاء." غادرت و الأرملة فاغرة الفاه و محدقة العينيين. تتلفت في وجوه المعزيات تتسول توضيح. سألت نفسها ( كيف يعني؟ هذه المرأة زوجة زوجي؟ ) كان وقع الكلمة مضحك في اذنها. فابتسمت ثم عقب التبسم ، ضحك ثم جلجلت الضحكة في اصقاع الديوان و النساء يهدئن من روعها و يبسملن و هن يربتن عليها. كانت تقول لنفسها ( عزتني في زوجي زوجته) ويداهمها الضحك فتضحك حتى تسيل الدموع و النساء يحوقلن. توقفت المرأة التي تقرأ القرآن عن التلاوة. أخذنها اختها و صديقتها من تحت ابطيها بعد ان عجزت عن الخطو و ادخلنها غرفتها تضحك حتى اضحكتهن ايضا و ضحكن سيدات على استحياء في الديوان. قامت المرأة التي تقرأ القرآن ترفع جهاز مكبر الصوت الخاص بها و هي تقول و هي تضحك ايضا باستحياء :- " الله يعصم قلبها . هم يضحك وهم يبكي."
غادرن النساء الديوان و هن يؤكدن لبعضهن البعض ان المرأة لا ُتلام ... فإذا لم تبك زوجها بل و تجن من بعده فعلام تبكي و علام البكاء ؟

أحدث أقدم

نموذج الاتصال