قصص الهيانة : الجزء الرابع الهدايا ُسود

كان اسعد يوم في حياتها. اروع من ليلة زفافها و افرح من يوم رزقها الله بمولودها الأول و اجمل من يوم رزقها الله بمولودها الثاني. كان اسعد يوم في حياتها حين جاء اليها زوجها تسبقه بشرى رائعة :-" تذكري صديقي الذي يشتغل في الأمارات و قد لي اراسله اكثر من شهر ، اطلبه يحصل لي عمل ؟ امس ارسلي انه وجد لي عمل و عمل جيد مش أي عمل و بلغني اجهز نفسي خلال شهر لحين تخرج الفيزا و اسافر." لم تصدق ما سمعته اذنيها لكنها اطلقت زغرودة مجلجلة هزت ارجاء منزلهم و ركض اولادها الاثنين اعمارهم العاشرة و الثاني عشرة سنة. زفت اليهم البشرى. قام الزوجين يرقصون فرحا ملئ الغرفة فرحا ، فقام الولدين يقلدان والديهما و ضجت الغرفة برقص اشبه ما يكون برقص التانجو.

كان الزوجين في كل ليلة يتحدثون مطولا حول المستقبل لكن لأول مرة بتفاؤل و أمل. قال لها زوجها :- "بمجرد اثبات كفاءتي في العمل سأصر على المدير في الشركة فهو اماراتي ان يخرج لكم فيزا في اسرع وقت لكي تلحقي انتي و العيال بي و نسكن سوية في الأمارات." اغمضت عينيها متمتعة بتخيل حياتهم كيف ستكون هناك. ثم فتحت عينيها قائلة:-" يسمع منك الله. لكن شوف! لغاية ما تخرج الفيزا و نجي عندك تمن ترسل لنا مصروف تمام."  عدل من جلسته القرفصاء و قال لها مؤكدا:- " أيش من تمام؟ قولي تمام التمام!  بغرقكم يا حبيبتي زلط. كل شهر برسلكم زلط كثير. برسل لكم ملابس و للأولاد شوكلاتة و لك تمر و عطر." كانت قلوبهم ترفرف بقوة حتى سمعوا نبض قلوبهم في اذانهم خفقات تشبه خفقات جناحي الطائر قبل ان يطير محلقا بعيدا من أرض الفقر. عادت تسأل:- " طيب و العيال؟ بتقدر ترسلهم سياكل. كم لهم يشتوا سياكل." قهقه مجيبا:- " برسل حتى موترات لو يشتوا! مالك انتي اولادي و لا بأخر عنهم شي." سكتت قليلا و عادت الطلبات الحبيسة تتدافع للخروج من طيلة بقاءها في زنزانة الفقر ، قالت له :-" ايش رأيك نخرج الأولاد الى مدرسة أفضل من الذي يدرسوا فيها الأن؟ اشتيهم يتعلموا انجليزي، ما رأيك؟" اجاب الزوج بثقة :- " ننقلهم و نص ، انا ليش يعني بفلتكم و اغترب و افلت لكم الا.... لكم. انقليهم للمدرسة حق العيال المزلطين. خلاص نحنا قد بنكون مثلهم!" قالت :-" و التلفزيون البلازما، هذا ضروري الصدق من اول راتب. ماعادبوش احد يتفرج تلفزيون ُدبا الا احنا." يأخذهم النوم و ينامون و يصحون على نفس الحلم الأبيض. تهز كتف زوجها و هو مستغرق في النوم قائلة:-" اشتي كمان فستان سهرة مطرز و الظهر عريان. كم لي متمنية له. و عطر و حامورة. يا ربي هيا متى بتسافر؟ يقوم فيغسل وجهه و يصلي ركعتين حمد و شكر لله رب العالمين ، ثم يجيبها بعد الصلاة :- " كل ما تطلبوه مجاب ، يا وجه الخير و يا وجه السعد." ما كانت حياتهم بائسة بل كانوا مستورين لكن كانوا مصابين بمرض مزمن اسمه الحرمان . بعد مرور شهر مر عليهم كما تمر عشر سنين عجاف خرجت الفيزا ذهب الجميع يودعون الزوج الى المطار. ذهبت هي و اولادها و اخيها الكبير الذي يحبها كثيرا. و والد زوجها و والدته و اخوته و اعمامه. كان حدث كبير ان يسافر احد افراد العائلة للعمل في الامارات.  لم تستحي من المجاهرة بفرحها بل اطلقت زغرودة كأنما هي زوجة و زوجها عاد منتصرا باللبس العسكري من معركة مع العدو. ارسلت قبلة بيدها صوب السماء متمتمه :- " الف شكر يا رب. محسنك يا ربي يا ارحم الراحمين."
بعد شهر واحد من رحيله بدأ  غيث الخير ينزل عليهم. اشتروا معظم ما كانوا يتمنونه. تحسنت نفسيتها و رافقها افتخار بزوجها و تحسنت نفسية الأولاد و تفاخروا بأبوهم الذي سار الأمارات. حسدهم كثير من اصدقائهم حيث ان ايجاد وظيفة في الأمارات في زمن البؤس و الحظ التعس هذا فعلا لهو من اسباب اثارة الغيرة.
مرت سنة لم يستطع خلالها زيارة اسرته من خشيته ان يستغل احدهم غيابه و يحتل وظيفته. لكن بعد سنة و نصف جاء اليه صاحب العمل يشكره على اخلاصه في العمل و ابلغه و هو يسلمه سبع مائة دولار انه يريده ان يذهب لزيارة اسرته و ان يعود و معه بن يمني رائع و عسل دوعني و عنب. كان المبلغ اكبر بكثير من قيمة هذه الطلبات فأنفق ما حسب انه سيفيض في شراء هدايا ، بدل السجادة لأمه اشترى لها ايضا عود و جلابية . و اغرق زوجته و اولاده هدايا. و اصدقاءه و اخوته حتى الأولاد الصغار الذين يشحذون في باب الجامع في حارته اشتري لكل منهم قميص. كان اللقاء في مطار تعز ، عقب وصوله الى صنعاء ثم طار الى تعز لقاء يشبه الافلام السينمائية حين يبكي الجميع. دامت زيارته لأسرته شهر بالتمام و الكمال ثم طار عائدا الى الامارات و الكل يدعي له. و اولاده يبكونه و زوجته تتنهد.
كان هذا الزوج " رجل" مثل سائر الرجال. في فترة السنة و اكثر في الأمارات كان قد تعرف على بنات ليل من جنسيات مختلفة. عربيان و آسيويات. لم يختر الزواج بأي منهن لما يعرف ان الزواج سيترتب عليه انفاق و ربما طفل . كذلك لم يختر بنت واحدة و يستمر في علاقته معها وحدها. بل ظل يتنقل من فراش لآخر. عقب عودته من اليمن الى الامارات كان باستمرار مجهد و في حالة إعياء جعلت مديره يوجهه بإجراء فحوصات. زار الطبيب فكتب له قائمة من الفحوصات اجراها كلها ثم اخذها للطبيب الذي انزل عليه الخبر كالصاعقة:- " انت مصاب بالأيدز!" فورا قفزت داخل عمق شبكية عينية صورة وجه زوجته التي كانت تنام في حضنه لمدة شهر. فورا بعدها بيومين اشترى تذكرة و عاد الى اليمن وسط استغراب الجميع و تشاؤمهم من عودته متوقعين ان يكون نذير سوء كونه لم يغادر الا منذ ثلاثة أيام. صباح اليوم التالي ذهب لزيارة اخو زوجته الكبير و بوجه مسود كظيم صارحه بمصابه الفادح. ضغط الأخ على جبينه خشية ان ينفجر و سمعه يستغفر و يحسبن و يحوقل. ذهب الأخ لأخته التي كان يودها كثيرا و يسميها ابنتي الصغيرة ، قال لها لابد من اجراء فحوصات كون الفيزا يوشكوا ان يصدروها و الفحوصات اجراء روتيني. ذهبت معه لا تسعها الدنيا على اتساعها. ظهرت النتيجة و تبين انها اصيبت بالأيدز من زوجها. خلسة بعدها بيوم عاد الزوج الى الأمارات. غير رقمه ، عاد لمزاولة عمله و استكمال المعالجة من الأيدز. اما الزوجة فجنت.... جنت فعلا ! لم تفهم لماذا غادرها دون ان يودعها. بدأت اعصابها تنهار من القلق . حاول اخاها ان يقنعها ان زوجها كان مصاب بمرض جلدي و قد نقله اليها ، و ان تأنيب الضمير دفعه للهروب الى الأمارات. وسط بكاءها كانت تصيح :-" عادي ، ايش فيها مرض جلدي! بنتعالج انا و هو. المرض الجلدي ما يموتش!" تدهورت صحتها و صحة نفسيتها فباتت تضرب صغارها حتى اخذهم خالهم في منزله ، فإذا دخا يقنعها بضرورة الانتقال للمستشفى للمعالجة عاجلته رامية وجهه بالأحذية و الكؤوس الموجودة في البيت. اضطر اخاها ان يأخذها للمستشفى غصبا. في المستشفى اخبرتها الطبيبة النفسية ، انها ستعالجها و تطلب منها معاونتها لأنها في الحقيقة لا تعاني من مرض جلدي بل مرض الأيدز. تمتمت :- " مرض يموت شكله ، صاح؟" اجابت الطبيبة:- " الأعمار بيد الله و الله كريم." فهمت الزوجة الان كل شيء. كانت الهدايا سود يا زوجي العزيز. بعد فترة من العلاج المخلوط بالدموع ، طلبت ان يأتوا لها بابنيها. جاء الولدين لزيارتها باكيين. حضنتهم ثم خلتهم... خافت ان تعديهم. ليس لديها معلومات كافية عن مرضها. غير انها قد سمعت انه يظهر بسبب علاقات محرمة. هزت رأسها قائلة لأولادها الذين لم يفهموا شيئا :-" شفتم يا حبايبي هدايا بابا؟ " عقب خروجهم مع خالهم قامت و فتحت النافذة و رمت نفسها منها و هي تصرخ " شكوتك لربي."  

أحدث أقدم

نموذج الاتصال