قد نثق ثقة يتضح فيما بعد انها كانت في غير محلها بقدراتنا ، صحتنا ،
تحملنا و قوتنا . احسست بهذا و انا اغادر عيادة طبيب العظام في رمضان بعد ان
ابلغني انني يجب ان ارتاح و الا ابذل جهد فوق ما اطيق. خرجت متأثرة لحالي. غاضبة
من عمل البيت ، و الطبخ في رمضان. تساعدني أمي لكنها امرأة كبيرة و مساعدتها لا
تجدي الا قليلا. هاجمني ألم شديد في ظهري عقب انتهائي من غسل الصحون. قررت بعد عدم
جدوى المسكنات ان ازور طبيب و لوان زيارة طبيب في رمضان ليست بالفعل السهل تنفيذه ،
لكن الوجع في " ظهري" و هو ما يمكنني من الحركة وهومن اهم الاعضاء في
الجسم البشري. بل من عظمة مكانته نسمي الشخص الذي يساندنا و يعيننا على حياتنا
بأنه " ظهر" نستند اليه. شخص الطبيب شكوتي بأنها " انزلاق
غضروفي" .
خرجت من عنده متحسرة على
نفسي. لا زلت صغيرة في السن على مرض كهذا غالبا ما يكون ضحاياه من كبار السن
و العجائز. غير أنني تنفست الصعداء و واسيت نفسي أن هذه الحرب قد شيبت شعر شباب هم
في العشرينات من اعمارهم.
منزلي في صنعاء القديمة ، ركبت باص حتى وصلت الى " السايلة"
ثم نزلت ومشيت على الاقدام الى الزقاق
المؤدي الى بيتي. وصلت الزقاق و لم اجد طفل واحد ممن يفترشون الزقاق في ليالي
رمضان وهم يلعبون ، و يفجرون " القريح". انقبض قلبي اكثر حين رأيت برميل
نقطة ، فوق البرميل شعار ويقف عنده رجل مسلح. كان هذا المسلح يفتش رجل كان عائدا
الى منزله مثلي. عندما ذهبت الى الطبيب لم يكن هناك برميل و لا مسلح ، فلماذا
يستحدثون النقاط؟ ليس الأمر في التفتيش و لا في البرميل ، الأمر في تقصي اموال منهوبة و
معالجة حكم مضطرب ،لا يجيد شيء سوى سرقة اموال الدولة بعد ان ُهمش الجميع
فيما عدى " القناديل" لم يمسهم أي تهميش. اضأت المصباح في موبايلي خشية
ان اتعثر بحجر و انا الان مريضة انزلاق غضروفي و اي عثرة سأدفع ثمنها غاليا. . لمحت المسلح يفتش الرجل بشكل غليظ
و فض. الرجل كل جنايته انه يريد ان يعود الى بيته. سمعت المسلح يستفزه في الحديث حين
سأله بعنجهية:-" أرجل انت أم لا؟" ... لست ادري لماذا عضضت شفتي لأمنع
دموعي من الانسياب كأنما الدمع ينساب من الشفاه. اشفقت كيف ُيهان الرجل دون أي
سبب. كانت صنعاء كالعادة تتفرج ، طوال تأريخها يتغزل فيها الشعراء وهي بكماء او لعلها
مكممه تجلس متكئة في مفرج.
سمعت اجابة الرجل على المسلح : -" بلى رجل ! ما هذا الكلام. عيب.
تنحى جانبا لأمر." ضحك المسلح على اجابة الرجل. استشعرت ضحكته فئران صغيرة
تقضم حذائي. فرفعت قدمي بشكل متناوب لأتفادى قضمها . اضاف المسلح قائلا :- "
وما دمت رجلا كما تقول فمالك قاعد في البيت مع النساء، لما لا تلتحق بالجبهة حيث
يتجمع الرجال؟" قام الرجل بضرب جبينه بباطن كفه و رد:-" انا ملتحق بهذه.
انها اهم جبهة! لو سمحت تنحى جانبا ." افسح له المسلح الطريق لأنه قد اكتفى
من اشفاء غليله. اقتربت انا متوقعة انه لن يكلمني لأنني امرأة ولان في ليل رمضان
يصبح خروج المرأة في ظلام دامس امر خطير. سألني
في استغراب : -"امرأة؟" اجبته فورا :- " نعم امرأة والنساء
لا يلتحقن بالجبهات. دعني أمر رجاء." رفع الرجل حاجبيه كأنه استفظع ان اكون تنصت على حواره مع الرجل. لكنه قال مدافعا عن نفسه :- " صحيح انهن لا ينضممن
لجبهات القتال لكنهن يدعمن المجاهدين. يقدمن الأموال ، يبعن الذهب ، يجهزن المأكولات
الطيبة. كل هذا يدعم قواتنا المدافعة عن كرامة اليمن و عن مبادئ ثورة الواحد و
العشرون من سبتمبر." مسكينة اليمن كم ثورة مرت عليها و لا ثورة حققت امانينا
، و بالذات الكرامة لا يذكرنها احد لأنها سيرة موجعة! اجبت المسلح :- " ما
عاد لدي ذهب ابيعه من اجلكم. كل ذهبي وذهب أمي بعناه لنأكل أنا و أمي و اخوتي. لو
تكرمت ابتعد قليلا كي امر." لكن
لم يكن لديه – فيما بدا لي – أي نية لإطلاق سراحي. طرح سؤال اخر جديد:- " طيب
على الأقل هل تحفظين القرآن؟ هل تزودون صغاركم بمعلومات جيدة عن ثورة الواحد و
العشرون من سبتمبر؟" زفرت بضيق زفرة احسستها كالإعصار داخل صنعاء القديمة.
اجبته :- " كنت احفظ سور قصيرة كثيرة، و كنت احفظ ياسين ، الكهف و الرحمن لكن
بسبب الحرب ضعف تركيزي و قدرتي على الحفظ غيبا. بت الان اتلخبط حتى في تلاوة سورة
قصيرة مثل " الكافرون"! اما ثورة الواحد و العشرون من سبتمبر ما دخلي
بها ، نحن زنابيل! لكن هل تحفظ القرآن أنت طيب؟" وكأنني فتحت تسجيل ، اجاب الرجل :- " طبعا
! القرآن مع سيدي حسين بدر الدين و سيدي حسين بدر الدين مع القرآن وانا مع سيدي
عبدالملك ،هو اخوه و بالتالي انا مع القرآن مثلما القرآن معي!" حدقت في
وجهه مليا. ما هذه المسألة الحسابية الغبية؟
سلط ضوء مصباح يده على وجهي فلمحت في محياه الدهشة وقال لي :- "
العينين والصوت عينا وصوت امرأة لكن الكلام كلام رجل. ما أنتِ؟ جنس ثالث؟" تغاضيت
عن قذارة السؤال . وقت الفتنة الزم الصمت. عند الفتنة لا تجادل. عند الفتنة تغاضى.
فمصنع الفتنة قد انتج كراتين من نماذج بشرية معلبة كهذا المسلح. ليت اقترب منه
لعلي المح تاريخ الصلاحية. لصلاحيتهم
نهاية مثل كل العلب. بعدها سنتنفس ونغني
ونطير و ستمطر السماء ذهب. متى تكاثر بيننا هؤلاء البشر؟ الست مثلي يا قارئي مستغرب من هذه العلب ؟ متى
تناسلوا ؟ اين كانوا ايام كنا اليمن السعيد، ايام كانت الفتنة نائمة. اما اليوم
فكلنا يمنيين ،كلنا مسلمون لكن بتنا نتكاره. بيننا اخدود من السنة نار و يتمنى كلا
منا ان يلقي بين نيرانه الطرف الأخر. توقف و تأمل يا قارئي: هل هذه اليمن هي نفسها
التي تعرفها ؟ هل لاحظت كم يد يمنية عزيزة
امتدت للتسول؟ هل لاحظت كم عدد الناس الذين يزاحمون القطط و الكلاب على ما تحويه
القمامات ؟ هل شممت جيفة الخوف؟ هل عددت ايهما اكثر شعر رأسك ام المقابر؟ تراجع
الرجل العلبة خطوات للخلف وبسرعة نفذت بجلدي من بين انياب تحقيقه. متى فوهة بركان
الصبر تنفجر؟ متى ؟ مشيت مسرعة و لمحت على الجدار ظلي فانتفض قلبي خوفا . لعنت عهد
بتنا نخاف فيه من ظل !
تأمل جيدا يا قارئي: قصف من السماء ، يموت ابرياء. تأمل جيدا اهانة
على الأرض. قطع رواتب و النخبة يسمنون و
يشترون الفلل الرائعة، توزيع قسائم ، و شتى صنوف المعاملات التي تنحدر الى معاملة
البهائم. المدارس امست بلا مضمون. سيان ان تواظب على الدراسة او تقبع في البيت.
الاطباء الممتازين هربوا. لم يعد لدينا سوى جزارين قد يزهقون روح بسبب تشخيصهم
الخاطئ. تأمل جيدا وتفحص. اسعار كل شيء
ارتفعت. كل شيء فعلا .المواد الغذائية ، الايجارات ، الفواتير ، الثياب ، السيارات
، المواصلات ، البترول ، الغاز ، الماء... و لو افلحوا لعبأوا في اكياس و باعوا
الهواء . تكارهنا بيننا البين لأسباب سياسية و مذهبية ونحن في رحم واحد ونحن اخوة.
لا ليسوا هكذا المسلمون الحق ، بل نحن عصاة و كفرة! حتى القلوب... ما عدنا الين
افئدة ، هيا المس قلبك ستخال انك لمست
صخرة! عن نفسي لا انكر ، اكره كثيرون
والمحزن ان من ضيع اليمن هم شوية جهلة ، مغسولة ادمغتهم بل هم نكرة.
وصلت بيتي . تمددت على الأرض. قال لي الطبيب ان التمدد على الأرض
ينفعني. هرعت أمي تطمئن علي. سألتني :- " ماذا قال لك الطبيب؟ طمئنيني؟
" اجبتها و انا اتفرس في سقف الغرفة رأيت عنكبوته تخرج لي لسانها :- "
والله يا أمي ، تعرفين كم يشخص اطبائنا خطأ. قال لي الطبيب ان عندي انزلاق غضروفي
لكن انا ارجح ان الانزلاق انما هو انزلاق فيظروفي." حدقت أمي في وجهي مليا ،
لم تفهم. عادي يا غالية ، روحي بس. المهم
ان عندي " انزلاق فيظروفي" ... رأيت العنكبوته تنفجر ضاحكة حتى وقعت على الأرض .. يحق لها ان
تضحك. مشت بكل اريحية محاذية لكتفي... ولم استطع ان ازيحها لأن عندي انزلاق فيظروفي.