حبوب للقلوب


حبوب للقلوب

هل سمعت بناس.......؟

من شدة ما عانوا من مصابهم لا يعودوا قادرين على تحمل أي مزيد و لوكان شيء تافه او طفيف ؟ تماما مثل غالبيتنا يا ناس ، نعاني بشكل جماعي من الحرب مصابنا الأعظم فلا نحتمل برد شديد في شتاء ستمر ايامه ويمضي . لا نحتمل انتهاء الطاقة الشمسية من الالواح في " يوم" ، ننفجر غضبا من الظلام لكن كم يتحملها لأنه لا يعاني سواها ،الكفيف؟


مثلا.............

لو كان المرء منا يحيا حياته حاملا على كتفه فقط حقيبة كلها هم ، فإنه حينئذ يكون قادر على حمل فوق ظهره طفل مريض ، و على كتفه الثاني كيس مثقل بالمشاكل ،و على رأسه يرفع حقيبة متخمة بالفقر. 

لكن.....

عندما تكون اصلا حاملا للكثير ، فإنك لا تملك تحمل أي مزيد. قد بطأت خطوتك ، انحنى ظهرك ، مالت قامتك صوب الأرض ، بات تنهدك مسموع للأنام ...حينئذ لا يطلبن أحد منك حمل حتى ورقة شجر يابسة.

هكذا انا شعرت بعد هروبنا للقرية عقب اغتيال على عبدالله صالح. كلما قلنا سنعود الى صنعاء ، قالوا سينفجر الوضع هناك تريثوا... فلا استقر الحال ولا انفجر. لا تغير الوضع للأحسن و لا للأسوأ ، لكن تكاثر الظلم و تناسل الهمج مع الغجر.

 جارتي في القرية ، هي صديقة لي في صنعاء. كلتانا من هذه القرية الغافية على كتف الجبل في ضواحي صنعاء.، اتصلت بي قائلة:-" تعالي عندي. احتاج مساعدتك في عمل خبز يأخذونه للجبهة."  ذهبت متثاقلة، كارهة سنين الحرب، الجبهة، جارتي و الخبزة. مسكتني من معصمي ما ان دخلت، اخذتني الى الديوان. ادخلتني دفعا و اغلقت الباب دوننا. قالت لي:- " اريد ان أستشيرك. انتِ اخت قبل ان تكوني جارتي في القرية. هنا في القرية ينتشر أي خبر خلال مدة اقصاها 35 دقيقة، لذا اخترتك انتِ لأنك منذ بدء الحرب اصابك البكم و قل ما تفتحين فمك." رفعت حاجبي ، المثقلين بالسخط ،سألتها :-" خير؟ ماذا هناك؟"

:-" احضر زوجي شوالتين طحين قمح و ِبر ، طلب مني ان ادعو اخواتي ، اخواته وجاراتي لكي نعجن و نخبز خبزا يأخذونه للجبهة. " قاطعتها :-" طيب؟! ماذا في ذلك؟؟ ليست اول مرة نأتي لمساعدتك في عمل خبز يأخذونه للجبهة." وضعت اصبعها فوق شفتي هامسة :- " اص!" التفتت صوب الباب الموصد. وشوشتني :-" لا! هذه المرة مختلفة. حين ادخل زوجي الطحين مع اخيه دعاني ليكلمني، كان وجهه غريب. قال لي كالمعتاد كلمي خواتك وخواتي و صلحين خبز نشله للجبهة ، لكن ما لفت نظري هو تكراره لعبارة " لا تنخلين الطحين" ، " لا داعي لنخل الطحين" و قبل  مغادرة الدار ذكرني " الطحين منخول ، لا تنخلنه أيا منكن". حدقت في الباب الذي اغلقه خلفه. مال الرجل هكذا متوتر؟ لما كل هذا التحذير المفرط؟ ما الأمر؟ قمت فأخذت ملئ قبضتي طحين و نخلته ، انظري ماذا وجدت!" اخرجت جارتي المنخل من تحت مفرش القرية فرأيت داخله حبوب بعضها دائري مكتمل الاستدارة ، بعضه ُكسر. لون الحبوب ابيض، صغار مثل حبوب الاسبرين الخاصة بعدم تجلط الدم. هنا اتسعت عيناي ذهولا و اضطرابا. أي حبوب هذه التي يريدون عجنها مع خبز المقاتلين الأطفال و الشباب؟ هل هي حبوب تجلب النصر؟ هل هي حبوب تستحضر الشجاعة و البسالة؟ طيب لماذا لا يعطون كل مقاتل  حبته في يده فيبتلعها مع ماء؟ لماذا يتم اخفاءهن داخل طحين؟ لماذا كرر زوج جارتي " لا تنخلين" ، لماذا التكتم؟ لاشك ان الأمر سيء! حتما الحبوب نتيجتهن كارثية على المقاتل و لكن ملحمية للقادة الذين يصدرون الاوامر. كان هذا رأيي!

 ايثارا للسلامة، علقت على ما رأيت قائلة:- " عادي ، يمكن حبوب يشددن العزيمة ، يجعلن المقاتل لا يهاب الموت."  اجابتني جارتي :-" لكن الخوف من الموت فطرة وغريزة ، اما تأملتِ الكلب في الشارع قبل ان يقطع الشارع يتلفت يمين و يسرى ؟ ان من لا يخاف الموت مختل عقليا. فهل هذه الحبوب يذهبن القوى العقلية ، حالهن حال الخمر و المخدرات"  نفخت بضيق حتى طيرت خصلة من نبعتها عن جبينها. أف!! جارتي فضولية وستدفع الثمن غاليا على فكرة! قال لها زوجها لا تنخلي فنخلت. لماذا نخلت؟ زد على ذلك ان اتصلت بي و أشركتني في مصيبتها هذه!  الفضووول ! تتصف به امرأة واحدة فتعم الصفة جنس النساء جميعا. و انا " مش ناقصة بلاوي" قلتها لها بضيق و تبرم. علقت على ردي قائلة: -" قد كلنا في الوسط ! انتبهي الكلام يخرج من فمك.  قد يقتلونا و اضعف الايمان ان يطلقني زوجي!"  لم اعرف ماذا اقول لها.

ظلت تحدق في وجهي كأنما انا دونالد ترامب، استطيع بكلمة ان اختلق حرب و بكلمة أنهي أزمة. لما طال وجومي ، الحت على:-" هيا شوري علي." قلت : -" اشور في ماذا بالضبط؟" كنت اتملص. اريد ان تنتهي الحرب لأعود عدوا الى بيتي في صنعاء و اخلص! قالت :-" احس ان هذه الحبوب تجبر المقاتلين على تنفيذ الأوامر بدون تمحيص. ربما يعرضون انفسهم للمخاطر. قد يجازفوا بحياتهم صوب الحتف بلا معرفة. ربما تجعلهم يتوهمون ان الزامل نصر و ان الموت وردة. ان القذائف زخات مطر و الصاروخ حشرة. حرااام ، اثم علينا ان نطعمهم ما قد يودي بحياتهم و شبابهم. فلوكان بالحبوب خير لما اخفوها داخل الطحين." جارتي محقة ، اقترحت عليها :-" اذن اعطيها للماشية." قاطعتني :- " هل جننتِ؟ انا لست مستغنية عن " القراش". قد أرى بقرة تنتحر من قمة جبل و قد ابكر الصبح لأتفاجأ ان ثلاثة اثوار التحقت ليلا بالجبهة. لا يا حبيبتي لا ، كله الا القراش!" خلعت حجابي و عصبت به رأسي. صداع! قالت جارتي :- " هل نقوم نعجن و نخبز و لسنا من وضع الحبوب في الطحين ، ام نتخلص منه و نشتري غيره و نخبزه بسرعة. اسرعي بالمشورة" انها كوميدية ، أي مشورة تنتظرها من انسان صادروا منه أمله، مستقبله، و كل مصادر سروره؟ شعرت بالامتنان كونها شارت على نفسها بنفسها. فلم اضف سوى كلمة :-" ايووووة!" متوهمة انها ستطلق سراحي فأعود الى بيتي. لكنها امسكتني مجرف. :-" احفري في الحوش الخلفي حفرة بحجم الشوالة و ادفنيها و انا سأخرج اشتري من دكان الجملة في القرية الطحين و اعود."  قمت بسرعة الذعر و الخوف ، كأنما ابتلعت طن حبوب و حفرت و انا الهث، دفنت الطحين. قرأت الفاتحة. كم سيستغرب القبر؟ هذا ليس ميت ! هذا طحين مغشوش! كم ستستغرب ملائكة الحساب ، كيف يسألن طحين؟ كم سيستغرب الموتى من الضيف الجديد؟ انه ليس انسان ، يا وحشتي من عالم الأحياء ، مالهم امسوا يدفنون الطحين و يتركون الموتى مرميين في قارعة الطريق؟

وصلت جارتي مع صبي الدكان يدفع امامه عربة فيها الطحين. لم ننخله. اصابتنا عقدة. اتصلت جارتي بجاراتنا . حضرن في الحال فعجنا و خبزنا و جارتي تغمز لي و تؤشر بيدها " أين؟" و اشير بذقني الى الحوش الخلفي. ففهمت. ابتسمت. و انا كذلك ابتسمت. احنا دافنينه سوى! دخل زوجها ابو الحبوب كلها ، فرأنا نوشك البدء بوضع الخبز في التنور. غضب لتأخرنا و اسمعنا كلمات قاسية. تخيلته يخرج آلي و يرشنا كلنا بالحبوب. قفزنا نسرع . وجدت لساني يدندن بدون أي تعمد مني اغنية " حبوب ، حبوب لا تغضب." لكنني كنت انطق حبوب بضم الحاء. جارتي تعض على شفتها لكي انتبه! فصمت فورا. دخل زوجها الحبوب بعد ساعة  ليجد الخبز كله جاهزا في اكوام فانفرجت اساريره. اردت ان اصيب اعصابه في مقتل فدندنت على مسمعه حبوب حبوب لا تغضب، مابش لهذا الغضب داعي. هو و اخيه يحملون الخبز و يخرجونه الى السيارة. رمقني بريبة. رمقته بمقت. غادر الدار الرجل و اخيه و اختفى كل الخبز من امام ناظرينا. قامت جارتي تثني و تشكر جاراتنا و تودع كل واحدة الى الباب مسلمة اياها ثلاث حبات خبز. ثم عادت الى. لست ادري لما انهرت على الأرض. ابتسمت لي. شكرتني. خنقتني العبرة. فبكيت. تأثرت هي الأخرى من حر دموعي فبكت هي ايضا. وجدت لساني الابكم منذ ثلاث سنوات يثرثر بلا وعي مني :- " قولي لزوجك لسنا بحاجة لحبوب للمقاتلين في الجبهة، لتزداد الحرب ضراوة و لتتعاظم في سواعدهم القوة. قولي له " لا" الف مليون مرة. نحن بحاجة لحبوب مزودة بالحب، مضغوط داخلها التسامح ، تقبل الأخر و مليئة بمادة تعمل على تليين القلوب ، هذا ما نريده، حبوب حب و ليس هذه الحبوب!


أحدث أقدم

نموذج الاتصال