الجزء الثاني
رأت دباب في الشارع ، يقترب منهم معاكسا في السير حاله حال كل شيء اصبح
معكوس. يبدو انه لمحها. في هذا الليل الكحيل ، فتاة تمشي سيرا على الاقدام و
بجانبها سيارة فضي فخمة و الموسيقى تضج منها و كذلك تصفيق الشباب بداخلها و كذلك مجونهم.
لاحظ ريبة المشهد فتحركت فيه غريزة الحمية الأصيلة لدى الرجال في اليمن. الرجال
الأصل و ليس الرجال التايوان! عندما اقترب الدباب بسرعة غير الشباب اليسا الى
زوامل لكي يخيفوا سائق الدباب. اقترب الدباب و هتف سائقه :- " اطلعي يا ختي
اوصلك ، اطلعي فيسع."
صاح سائق السيارة الفضي بصوت فاق الزوامل علواً:-
" ما دخل أمك انت يا طرطور؟! هذه اختي نزلت حانقة واحنا بنراضيها. رحلك! "
حملقت الطبيبة و حركت نظرها بين سائق الدباب و سائق السيارة في صدمة. اختك؟ و
حانقة؟ لم تنطلي الكذبة على سائق الدباب لكنها كادت ان تنطلي عليها هي من شدة ضجيج
الورشة التي كانت توش في دماغها. قال لها الشاب في السيارة:- "هيا ناهي اطلعي
لش معه هو يا فقرية." فهمت مقصده. تفرست في وجه الشاب سائق الدباب. كانت تلهث
وهي لم تجري. كان وجه سائق الدباب مكفهر. لعله كان يصارع خوفه. لعله خشي ان ينزلوا
فيحاصرونه و يوسعونه ضربا. لم لا؟ لعله
خاف ان ينتهي البترول. لعله لا يملك مالا في جيبه. كان يعدل من تخزينته في خده و
هتف بها :- " اطلعي ياختي ، الدنيا
عاد فيها خير. اطلعي." من ناحية ان الدنيا عاد فيها خير ، فالدنيا والله
تالله ما عاد فيها خير. الشعب اليمني بلا راتب وهذا لم يحدث في التاريخ! برغم
خشيتها من كليهما كونهم جميعا رجال لكنها فضلت الفقير لقناعتها ان الاخلاق لازالت
موجودة بين الفقراء اكثر مما هي موجودة في الاغنياء. دخلت الدباب و هي تتمنى ان
تفيق من هذا الكابوس. ما ان جلست ، حتى عاجلت السائق بقولها:- " شوف انا معي
سيارة ، بس خلص منها البترول و جنبتها هناك عرض الشارع. ماكانبش معي اعبيها بترول،
و لا معي استأجر ، ولا معي اشتري مهدئ و لا حتى معي احاسبك! عتوصلني لغدوة ونا
احاسبك؟" اجاب بمنتهى القوة:- " الله المستعان. مالش ما تشتي تصدقي ان
عاد في اليمن كل خير." ساق الدباب
حتى اقتربوا من اول نقطة تفتيش. سلط المفتش ، مدري العسكري ، ضوء مصباح يدوي الى
وجهها . اقتربت من النافذة موجهة اليه الكلام :- " يا فندم، سيارتي كمل منها
البترول و تركتها في الشارع. بدأت امشي رجل و جات لي سيارة فيها شباب يشتوني اطلع
معهم. السيارة فضي صالون ، هي ورانا. وقفوها ، لا تخلوهم يمروا. شاغلهم و أخرهم
امد محنا نبعد. تمام؟ الله يحفظك يا فندم." كان المستمع في زي مدني متسخ ،
مخزن يخرج من جوفه لحظة و هو دخان سيجارة و لحظة و هو نفس تكثف من شدة البرودة.
سلط ضوء المصباح في وجهها مجددا لعله يفتش اذا كان وجهها يستاهل. ثم لحظت في وجهه
عدم مبالاة بعدها اشار بذقنه لسائق الدباب :- " هيا اطلع." اسرع سائق الدباب
و اخذ يراقب من المرآة اقتراب السيارة الفضي من نقطة التفتيش بارتياح و هو يبتعد.
كانت هي تلتفت لتتابع. بعد برهة مرت السيارة فعلق سائق الدباب :- " اوهو!!!
خلاهم يمروا. ادوا له زلط عيال الحرام." اجابته عن معاناة :- " هم عيال
حرام و عيال حرام من اوصلوا اليمني لبيع ضميره ، و مسئوليته و رجولته. الفقر يا
خي. كلنا افتقرنا." كانت تدله على العنوان في طمأنينة لدخول الدباب في
الشوارع المزدحمة بالسيارات . الناس تسير في الشارع. لا يستطيعون هنا ان يلمسونها. نقطة بعد نقطة
تروي لهم القصة و نقطة بعد نقطة يدفع الشباب و يمرروا سيارتهم. يومها ازدردت ريقها
و هي تلعن الفقر ، لعنت الرواتب التي لم يستلمها الناس ، لعنت الجوع ، لعنت الحرب
، لعنت الفتنة ، لعنت خروجها في هذا الوقت ، لعنت صديقتها و ابوها لما مات الان؟!
و ابنة صديقتها لما هي صغيرة؟ لعنت سعد لمجرد. لعنت اليوم الذي اشترت فيه دقيق و
اخذته لمطبخها لتعجن خبز ، فاكتشفت ان لا خميرة في البيت ، اشترت بعد كم يوم
الخميرة لتكتشف ان الغاز خلص! لعنت الاثواب المرقعة ، العيشة المرقعة ، الوطن
المرقع، لعنت هؤلاء الشباب ! بعدها لاحظت ان
سيارتهم قد ضاعت ، لعلهم تركوها بعد ان دخلت السيارة في الشوارع المزدحمة. اوصلها
سائق الدباب لباب بيت صديقتها ، اجزمت يومها انه من ابواب الجنة. نزلت وهي تطلب من
السائق رقمه قائلة له:- " سأتصل بك غدا و احاسبك على ايصالي و اكافئك على
وقوفك معي." كانت تنوي ان تستلف من الجن اذا كان الجن يقرضون الانس لأن هذا
الشاب يستحق المكافأة. اجابها : - " لا يا ختي، انا طالب من الله الأجر. مالش
ما بتصدقي ان عاد في بلادنا خير." الحت و صمم هو حتى هزمها فدعت له الله ان
يجازيه عافية و رزق وسعادة و أمان. ذهب.
سارعت بدخول منزل صديقتها و براءة و سذاجة هذا الشاب تكاد تُضحكها. كيف مالي
ما صدق ؟! اما شهد هذا الشاب الموقف من اوله حتى نهايته؟ وقفت بها سيارتها ، نزلت
تمشي رجل ، لاحقها شباب انذال ، ظهر هو لنجدتها كالفارس النبيل ، في كل نقطة كانت
تبلغ بالشباب و في كل نقطة يدفع الشباب ويمرروهم ، كيف تصدق ان اليمن لا زال بها
خير؟ ما الدليل و اين الأمارة؟ لا ايها المنجد الشريف النبيل الحر الرائع اليمن ما
عادت بخير! اهل اليمن هربوا من الوطن ، هرب كثير منهم من قصف الطائرات و هرب بعضهم
خوفا من القهر و القمع. لم يبقي الا ممن لا خيار لديهم سوى البقاء. نحن يا سائق
الدباب العظيم نحيا بلا رواتب. كيف؟ ربك وحده يرى و يعلم.
بمرور الوقت نصاب جميعنا بالزهايمر بدرجات متفاوتة. هناك ناس من شدة
رفضهم للواقع الذي يعيشونه تصيبهم حالة زهايمر فينسون مثلا ارقام ، وجوه ، ينسون
معلومات ، ينسون عناوين. و هناك اناس آخرين تصيبهم حالة متقدمة من الزهايمر فينسون
اسماء ابناءهم ، زوجاتهم ، امهاتهم. هذا حدث لنا لأننا نعاني بقوة و غير مسموح لنا
بالبوح. يعرضون امامنا قادة يؤكدون لنا اننا " صامدون" بينما نحن في
انهيار لكن صامتون. يرددون على مسامعنا " ايها الشعب الصامط" "
ايها الشعب الصامط" حتى توهمنا ان انهيارنا صمود! من شدة شوقنا لنسيان ما جرى
لنا في اليمن اصبنا كلنا بدرجات متفاوتة من الزهايمر. هذه ليست مبالغة كاتبة ، بل
انا منهم. يخبرني شخص بدعوة ما ، ثم يعاتبني لأنني لم احضر فأنكر انني كنت على علم
اصلا بالعزومة. فيؤكد لي انه دعاني اليوم الفلاني و انني قلت كذا ، و انني ذكرت أي
ثوب سألبس! ويح ذاكرتنا التي ماتت بموت الصبا في حبيبتي اليمن. ويح قلبي من عشق
جسد و وجه في قمة الجمال لكن كل محتواه محن. ويح قلبي مما جرى لك يا يمن! وصلت باب
صديقتها فارتبكت ، الوقت متأخر فنسيت ما الذي جاء بها في هذا الوقت المتأخر ، غير ان ابنة
صديقتها اعادت اليها تركيزها حين صاحت من النافذة :- " خالة ادخلي بسرعة ، الحمد
لله قد ماما بتبكي بهدوء." فدخلت هي و بكت حتى داخت.