شعور اسمه: خنقتونا!





الجزء الأول
لم تستطع قيادة سيارتها سريعا، لأنها كانت ستستنفذ البترول منها. البترول المتبقي فيها قليل. البترول غير متوفر في البلد ، و إن توفر فهو غالي. نحن كما نعلم جميعا في أزمة ، مدري صراع على السلطة ، مدري انقلاب ، مدري حرب ، مدري عيشة بنت كلب...و الله ما عدنا نعرف اسم لما حدث لنا. كذلك نحن بلا رواتب ، مدري بلا كرامة ، مدري بلا ُحرمة و الله ما وجدنا تبرير لما حدث لنا. لكن ما نعرفه هو اننا فقدنا حرصنا على كل شيء، حتى المخيف اصبح عادي. مثل ان نرخص نحن و يصبح البترول غالي.

لم تدر ماذا تفعل؟ لا استطاعت ان تسرع في القيادة و لا هي عصفور يفرد جناحيه و يطير فيحلق. لكن ! ابنة صديقة طفولتها اتصلت بها باكية تبلغها ان " جدو" أي والد صديقة طفولتها توفي للتو و ان امها تصيح و تبكي حتى تفقد وعيها. طلبت منها سرعة الحضور لأنها صديقة أمها منذ الطفولة و كأنما هي " اخت"، و لأنها طبيبة ، لكي تشد من ازرها و تقويها في هذا المصاب الجلل خاصة و ان ابنتها لم تتجاوز الرابعة عشر، أي اصغر من مواجهة موقف كهذا لوحدها. ساقت سيارتها ببطيء ملفت ، داعية الله في تضرع صادق الا ينفذ البترول فتضطر لإيقاف السيارة في قارعة الطريق المظلم الخاوي الموحش هذا و اكمال سيرها على قدميها. لماذا؟ لأنها لا تملك مالا في حقيبتها ! فلو كانت تملك مالا لزودت سيارتها بالبترولو لو كانت تملك مالا لاستأجرت سيارة أجرة اسهل لها و اكثر أمانا في هذا الليل الأسود. لو كانت تملك مالا...لو... لو... يلعن ابوها كلمة لو ظللنا نتأرجح عليها حتى طيرتنا اشلاء من لحم في الجو!  كأنما بسياقتها المتباطئة ، تفكيرها في حدوث السلبيات اجتذبت السلبيات اليها فعلا.  حيث اقتربت منها سيارة فضي مرتفعة و فارهة. يتكدس بداخلها شباب ، دفعة ما بعد الحرب. رقمها  ( 2192014). صوت الأغاني يصدح من نوافذهم ، يقاربون سيارتهم من سيارتها " الُحقة" كأنما الغرض اخافتها. شباب موجوعين على ضياع مستقبلهم ، فينتقمون من الوجع بالتسبب في وجع الآخرين! قارب الشاب السائق سيارتهم من سيارتها قائلا:- " لا تكونش تخرج وحدك هذا الساع يا قمر!" اغلقت نافذتها بانفعال. انا اعاني يا حجر! البترول يكاد ينفذ، صديقتها توفي والدها قبل قليل، ابنتها اتصلت تستنجد بها، ليس معها في حقيبتها حتى مائة ريال . بدأ الشاب يرفع صوت الاغنية لسعد لمجرد " غلطانة". هي برضة اللي غلطانة؟! يا من كفنك الغلط و للأسف لم تمت. رن موبايلها ، كانت ابنة صديقتها مجددا:- " خالة وين انتي؟ بسرعة. ماما قوي تاعبة. اشتري لها مهدئ. انا ماقدرتش امسكها بتبكي قوي و تدوخ. بسرعة يا خالة. وين انتي؟" طمأنتها انها في الطريق! مهدئ مين يا بنتي؟! الطبيبة ليس في حقيبتها ريال ، فقط حبة باندول. لسوف تعطي هذه الحبة لصديقتها و ستشرح للابنة ان المهدئات غير مستحبة و ان من الافضل صحيا مواجهة موقف الفقد بدلا من النوم او التخدير. كانت صديقتها هذه من المعانيات في الحياة ، من الحياة نفسها و من هبوط مزمن في الضغط. تزوجت صديقتها هذه فأنجبت هذه الفتاة ثم طلقها زوجها. لجأت لذويها و عاشت معهم مع ابنتها. توفت والدتها قبل ثلاثة سنوات و اليوم فقدت والدها. ليس لها اخوات و لها ثلاثة اخوه. اصغرهم يدرس في ماليزيا منذ قبل الحرب. اما الثاني فانتقل من قبل عمله الى الأردن حيث يقطن هناك. اما الثالث فيقطن في غرفة نومه ، عقب استغناء شركته عنه و لقرب بيته من جبل نقم و لتكرار سماع الطائرات و دوي الانفجارات اصيب الرجل بحالة نفسية من العزلة و الاكتئاب. يعني صديقتها هذه ليس لديها احد سواها. فهي الاخت و هي الطبيبة و هي لا تملك حتى مائة ريال. منزل صديقتها يبعد مسافة ربع ساعة من منزلها. الشارع طويل ، مظلم و غير مأهول. السيارة الفضي محاذية لها و سعد لمجرد يغني بقوة و الشاب يغني معه و يؤشر اليها و هو يهز رأسه طربا " غلطااااانة"، كأنما مشهد من الفيديو كليب . اصدقاءه يصفقون. ما شاء الله مرتاحون شباب ما بعد الحرب. لا مبدأ، لا قيم ، لا اخلاق ، ما شاء الله عليهم عراة من ادنى درجات الحياء. كيف في حرب و لك نفس تتحرش؟! ظلت تخشى نفاذ البترول حتى اجتذبته فعليا حيث بدأت السيارة تقطع في السير فأدركت فورا انها يجب ان توقف السيارة على جانب الشارع. البيوت في الشارع بعيد و قليل، مثل الرحمة المتبقية في قلوبنا تجاه بعضنا البعض. قليل ايضا قوي قليل. نزلت من السيارة و اغلقتها دون تفكير. لم يكن امامها خيار فمن غير المعقول ان تبات ليلتها داخل سيارة. استجمعت شجاعتها كشجاعة انسان وجد نفسه في ادغال بين الافاعي و الوحوش. بدأت تسير دون ان تلتفت للسيارة آمله ان تجد ناس في نقطة تفتيش. أيش اسمهم؟ حراس ،مدري شرطة ، مدري عسكر ،مدري مقاتلين جوا يقضوا اجازتهم من الحدود، مدري والله أيش اسمهم. المهم انها تمنتهم كما يتمنى الغريق قشة تجرفه معها و الى البر يعود. اخرج الشاب النذل رأسه من النافذة قائلا:- " ما رأي القمر الذي نزل الأرض يطلع معانا؟ عنوصله لفين ما اشتى."  هي قوية ، هي طبيبة ،هي خريجة حديثة العهد بتلمس اوجاع الناس لكن داهمها البكاء من شدة وجع الخوف. كانت خائفة و ريح نوفمبر باردة. الشوارع مطفأة و البيوت قليل. وضع بائس مسلول ، بل انها حتى ليست قمر! هم فقط كلاب شوارع تغازل ، لا بل هم اقذر. قال لها السائق :- " احنا قادرين نطلعش بالغصب ، لكن ليش و انتي؟! اطلعي من نفسش احلى." هنا كادت تتعثر في سيرها رعبا. ليس في حقيبتها مسدس تخيفهم به او تطلق رصاصة في الجو لعل الناس تتجمع ، لو كان معها مسدس لو! قالوا ارخص واحد بمائة و خمسون الف من جحانة ، و هي منين لها ، هي لها الخوف ولأن حقيبتها فارغة  لها الذل و الاهانة! لو كان معها حتى بخاخ ترشهم به فيدوخوا ، او ذاك الذي قالوا انه يتسبب بصعقة كهربائية للمهاجم. لكنها لا تملك شيئا. لا رواتب ! غير الأنذال اغنية لاليسا " خدني معك بالجو الحلو ، خدني معك...." قال لها الشاب :- " هيا اطلعي ، مابش احد هانا ، محد عيبسرش، هيا يا قماااااااار!" كانت تمشي  و تتعثر. حتما لديهم اخوات، لكنهم بلا دين بلا دم او كما نقول نحن اليمنيين بلا شوية من هذاك الأحمر.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال