من دلال و من هدى؟

لاحظت بعد مسيرة السبعين التي خرج فيها الناس لتأييد المجلس السياسي الأعلى آملين ان يلقوا فيه     " الضايعة"، لاحظت ان محبي و عشاق و انصار علي صالح اصيبوا  بالغرور ، على الرغم ان هذه لم تكن صفتهم طوال 33 عاما حكم فيها هذا الرجل .  بيد ان هذه المرة - بعد ان ضاعت اليمن في نفق  الحرب الطويل، المظلم ثم - ظهر علي صالح كنقطة ضوء في هذا النفق- ارتمى  في حضنه خصومه قبل محبيه ناشدين الهروب من عيشة  كلها ملاحقة " للغاز و البترول و الديزل"  ! طامعين في الخلاص من الحرب ، مما زاد المحبين له  "زنط" . فتباهوا :-" قد قلنا لكم ، مالنا الا علي !"
و هز الجميع رؤوسهم مؤيدين في انصياع لأي رجل  "قد" يجعل البلاد تستقر و ينتشلها من هاوية الفقر و مستنقع الحرب او على الأقل يخفف من سرعة تدهور الحياة فيها. متناسيين تماما ان ما وصلنا اليه اليوم و هذا الظلام الحبري كان هو من مزجه و خلطه. لكن لا بأس، الحرب علمتنا ننسى الماضي و نساند من قد ينقذنا حتى لوكان هو من دفعنا صوب الدوامة في البحر ، المهم انه قادر ينتشلنا اذا لا بأس به. هذه هي الحكمة اليمانية! مش بسيطة الحرب يا جماعة ، انها تذل ! مش بسيطة الحرب انها سوط سلخ جلودنا جميعا. مش بسيط الشعور بالخوف من الغد و من اللحظة القادمة. فكيف لا نركع و كيف لا نهاب؟ من يقول انه سعيد او آمن او ينام مطمئن؟ كذاب و ستين كذاب!  تبا لكل من أجج الحرب او كان سبب من الأسباب !علي صالح ينتمي للجيل الذي تظاهرت ضدهم شعوبهم و هتفت ( ارحل) ثم انتحبت عليهم بعد الرحيل. قد قابلت اشخاص من العراق ، سورية، تونس ، مصر و ليبيا. جميعهم نادمين.  صحيح ان " علي " بالذات لم يرحل بل بقي ليعاقب من اضطروه للتنحي عن كرسيه اللذيذ و في نشوة الانتقام الساخنة لم يتذكر انه انتقم من الشعب ايضا، الذي لم يرتكب في حقه أي خطيئة. صحيح ايضا ان الرجل مؤخرا في اغسطس 2016 اعتذر للشعب و قال حرفيا " انا آسف" على كونه لم يكن يدر ان المحيطين به فاسدين. اعتذر لشعب بات اكوام عظام ، و لبلاد باتت ركام.  تأسف لأطلالنا و لأطلال اليمن! بصرف النظر عن تصديقنا للعذر من عدمه لكن ماذا يجدي الاعتذار الاطلال؟ لكن الاهم انه اعتذر ، وبالنسبة لإعادة إعمار اليمن فلا قلق هي لم تكن معمرة اصلا و يحلها الف حلال! اذا كان قد اعتذر عن  " الفساد" الذي – على حد تعبيره – لم يكن على علم به فماذا عن محالفة ميليشيات مسلحة معظمهم شباب صغير السن ؟ ميليشيات اقحمتنا في " عيشة" اذا جاز لي تسميتها بذلك تدور كلها في حلقة مفرغة من " حرب غاز بترول ديزل طاقة شمسية بصل طماط و مابش ريال !" ثم برروهن جميعا  بالحصار و العدوان. الله؟! طيب ماذا عنكم ، الم يمر على جبا بيتكم العدوان و الحصار؟

 علي رجل ذكي و بشدة ، ليته وظف ذكاءه لنهضة اليمن. يا ليت و الف يا ليت. ليته جنب اليمن الحرب ، و حافظ على روح كل يمني و كل مبنى و بيت. يا ليت... ليته فهم ان العدوة غولة و اليمن صغيرة وديعة ضعيفة فقيرة لا لها طائرات حربية 2016 ولا لها صواريخ ، بل هي فقط حرة تتباهى بجنودها الأقوياء ورجالها الحفاة ، حرة تتمختر بعكازها  بلا أغلال و لا قيد. "علي" في عز ُيتم اليمنيين فتح احضانه لكل اليتامى ، لكن بصرف النظر عن مشاعرنا نحو هذا الرئيس السابق ، الوقت مش وقت عواطف ، اليمن غرقت و هناك اناس منتفعين من غرقها يبيعون سلاح ، يبيعون دولار، يبيعون بترول و غاز و قات!!! طيب و اليمن يا جماعة الخير؟ يجيبونك :- "مع الكلاب يا خي ، قد احترمناها كثير ،و الصدق  طعم الزلط غييير!"حسنا! ايها المنقذ كما يراك غالبيتنا ، انت محنك سياسيا ، و مختبر بمتاهات السياسة. ايها المنقذ ، لن ُتحل أزمة اليمن الا و تعز في خير. تعز ليست بمعزل عن صنعاء. لا حل بدون وقف القتال في تعز. نحن معك يا ابا احمد ، اذا كنت تملك مفتاح باب وقف الحرب. لا نحن سنقول لك ارحل و لا انت تسكت على الفاسدين . انه اتفاق! هيا ارينا – في تعز - ماذا ستفعل! اما عدن فقد حرروها! تحرير اجزم ان اهلها نادمين عليه. لكن باستمرار هناك تراجع عن الغلط و هناك اصلاح ما ُكسر.

 في تلك اللحظة ، حيث كنت ذهبت لحضور حفل خطوبة ابنة صديقتي ، دخلت الديوان صديقة قديمة ، علاقتي بها سطحية. او دعوني اصفها " بالمعرفة." لأنها لم تكن يوما صديقة. دخلت تتلفت يمين و شمال بحثا عن مكان شاغر. لم يكن هناك مكان شاغر سوى كوشة الخطيبة المزينة بالفل ، ( لأنها لم تكن قد دخلت بعد)، و مكان بجانبي انا. لوحت بيدي اليها و اشرت الى يميني حيث المكان الشاغر. لكنها واصلت بعيونها تجوب الديوان كأنما لم تراني. في الأخير اقتنعت انها لن تستطيع الجلوس في كرسي الخطيبة فتنازلت و اقتربت للجلوس بجانبي. جلست و هي تغمغم " سلام" دون حتى ان تصافح. تأملتها تعدل من وضعية المدكى وهي ترزعه رزع لتجلس ، سألتها عن صروف الزمان معها بعد قيام الحرب في بلادنا. لم تجب. لعلها لم تسمع. اعطيتها قارورة ماء من الطاولة أمامي . لم تأخذها مني! الله؟! على قولة سعيد صالح " دا استنصاد بئة"! رفعت صوتي :-" خذي لك هذا الماء."  قالت :- " اطرحيه عادي! كنت بشل لنفسي." لم افهم سر الجفاء لكنه ذكرني انها عفاشية كبيرة و ذكرني انها قرأت لي مقال سابق بعنوان   " ابونا و على عيننا" و انها قابلتني ايامها و عاتبتني على تصميمي  ان لا افهم ان مالنا الا علي. لكن مر على المقال شهور طويلة. لست افهم لما غاظها مقالي ذاك ، وانا قد افهمتها ان الشعب اليمني ليس بالشعب القارئ اصلا ، حتى هي  لم تقرأ ! لكن " قالوا لها" انني في المقال انتقدت سياسة علي عبدالله لكنني قلت يجب ان نتقبل منه أي حلول لأنه " ابونا و على عيننا" ، كانت عينيها تتهرب من الالتقاء بعيني. ثم وجهت كلامها للجالسات في الديوان حتى لا تكون خاطبتني اصلا :- " انا اليوم خرجت السبعين ، انا و جهالي. نؤيد المجلس السياسي الأعلى. انا و اولادي بصراحة وطنيين." على حد علمي معها بنت عمرها 11 و ولد عمره 8 و ولد ثالث عمره 6. الوطنية في هذه السن تتمثل في توفر الجعالة وتقليل الواجبات! لكن لا بأس. علقت انا :- " انا احب اليمن ، و احسب نفسي من الوطنيين ، لكن الخروج للسبعين مش مقياس." علقت بكل جرأة :- " لا  طبعا مقياس ونص!! اذن ، انتي مش وطنية. اليمن عندك في المرتبة الثانية. حتى انا اعرف انك مش مولودة هنا. ما شفتيش النور اصلا في اليمن!" استغربت على سهولة اصدار الاحكام لسبب سخيف مثل مكان المولد . بعدين شفت النور في مصر ، شفت النور في كوبا ،ما علاقة هذا؟ و هي تعلم ان اليمن لولا نور الله فيها لأظلمت منذ عام و نصف ! اجبتها :- " مشكلتنا في غير المثقفين( دون ان اسميها) انهم لا يقبلون رأي الأخر. وحتى مثقفينا للأسف يأخذوا شهادات الجامعة ، و الماجستير ، و الدكتوراه. يقرئوا عشرات الكتب ، يناقشوا الاقتصاد ، الجيوليوجيا ، المجتمع ، الطقس ، الاحتباس الحراري. لكن لا يمكن ان يتقبلوا رأي غير رأيهم. اين الثقافة فيهم اذن؟ الخروج للسبعين كان سببه ان الناس تتمنى توقف الحرب. ما خرجتش الناس عشان عفاش او حوثي او غيره. خرجوا تعبوا حرب. و في ناس خرجت اندفع لها ، و في ناس خرجت تتصور وسط الجموع ، و ناس خرجت تشتي تصرخ و تصيح. انا ما خرجتش مثلا ، كان عندي" صداع"! رأيت سبابتها دون سابق انذار تتخشب امام انفي وهي تجز على اسنانها قائلة: -" لو سمحتي لا تقوليش عفاش!" ضحكت من قلبي مجيبة :- " الله؟! اسم الرجل و الا انا اسميته؟!" اجابت و هي تضم اصابعها النحيلة كأنهم باقة اشواك:-"  قد قلنا لكم لا تقولوش ارحل ، لا تقولوش ارحل ، من الفين و احدى عشر و احنا نقولكم! ما تفهموش ! ما ارتحتم الا لمن قامت الحرب!" من شدة ما صدمني كلامها وجدتني احدق فيها فاغرة الفاه. يا جماعة الحرب ُتذهب العقل مثل الخمر! سألتها وسط ذهولي:- " من احنا اللي ما فهمنا؟!" ردت :- " انتم اصحاب الساحات و ارحل. امانة انكم الغرماء الحقيقيين .امانة انكم اعداء اليمن اكثر من الطايرات السعودية." دافعت عن نفسي و انا ازدرد ريق مر نتيجة خطيئة عظمى في حق وطني انا اساسا لم اقترفها و اضفت :- " من؟ انا؟! يمين بالله ما خرجت ساحة ، و لا جلست في خيمة ، و لا نطقت ارحل. لكن الذي خرجوا اسمحي لي ادافع عنهم. هم خرجوا ضد الفساد ، بمجرد ما شافوا رموز الفساد انضموا للثورة عطفوا و رجعوا بيوتهم. تاركين المنضمين الجدد  يعصدوا و يمتنوا العصيد على هواهم.؟!" علقت قائلة:- " انت فعلتي شي اخس و العن! انا علاقاتي الاجتماعية واسعة و اخرج جلسات شبه يوميا. اسمع مرات يعلقين على قصصك. يقولين اسلوبك مستفز و انك بكلك مستفزة. لدرجة استحي اقول اني اعرفك!" هنا تحرك داخلي صنم غضب نادرا ما يتحرك فقلت لها:- " تستحي؟!! ليش؟!!!! او هن سرد إباحي عن قصص دعارة ؟!" سدت فمي بباطن اصابعها لأنها تعرف انني انطق بما في قلبي و لا انتقي الفاظي ثم بكل وقاحة اجابت :- " اخس و العن! انتِ مستفزة و اسلوبك مستفز! " اجبتها و قد نويت ان استفزها مادامت متمسكة برأيها :- " انا مستفزة انا؟ انا ارحِم." واصلت حشو القات داخل فمها ، احسست من صفحة وجهها انها " فاصل و تواصل."  ثم قربت فمها من اذني توشوشني كأنما اكتشفت في آخر الفيلم الهندي اننا خوات :-" اسمعي الكلام ! الزعيم لا تكتبيش عنه." سألتها ببرود :- " ليش ؟ انا اكتب عمن شئت!" عادت توشوشني حتى احمت اذني من انفاسها :- " اسمعي الكلام ! الزعيم له محبين يفتدوا بأرواحهم ارجله. لا تكتبي عنه." تصاعدت نفسي. كدت استفرغ من هكذا ناس. هدأت نفسي بعدما شربت رشفة من قهوة القشر بالزنجبيل الرائعة وناظرتها :- " يفدوا بأرواحهم أرجله ليش؟ سار بهن يفتتح مستشفيات تنافس مستشفيات مصر والاردن كأفضل قدوة فلا شأن لنا نحن العرب بمستشفيات المانيا؟ و الا ليكون خطى  بهن ليتفقد تعبيد شوارع بأزفلت لا يتحول الى حفر بعد المطر. او ربما - و نحن لا نعلم - هو تمشى بهن في حدائق المدارس الحكومية التي تعلم النشأ ان يكون موسوعة متحركة لا حمار يحفظ صم. و الا يمكن راح بأرجله يزور المساكين و المعاقين و الأيتام. عَيشنا في ظلام قبل و بعد الحرب لكنه الأن اصبح تام و دائم! ظلم من لا ظهر لهم. ترك الحيتان يأكلوا الأسماك الصغيرة و يأكلوا اراضيهم و وظائفهم و منحهم الدراسية.  افقر الشرفاء و اغنى الفاسدين.يفدوا بأرواحهم أرجله لـ  يـ ش ، أيش يعرفوا منه؟!!" اجابت بصوت اسرى في جسمي قشعريرة :- " يعرفوا منه الأمان يا مستفزة!" صمت انا لأن َنفسي قصير... صمتت هي برغم ان َنفسها طويل.. لمحتها تتفرس في ملامحي متوهمة انها غلبتني. خنقتني العبرة لأنني افتقد الأمان بشدة ، لم اجب ، نظرت اليها بصمت و اعماقي تصرخ :- " لا نريد أمان يعقبه حرب! " الأمان الذي تنعمنا به ،حاشى لله ان انكره ، لكن "هو" نفسه بدده. تحالف مع من فتحوا الباب بأفعالهم للحرب. ثم قالوا للشعب نحن جندكم و نحن حماتكم. طيب ما اختلفناش ! بس انتم اصلا من اوصل الحرب الينا... ماذا يجدينا وقوفكم ، و قد قلبت الدنيا وجهها علينا ، وقد هاجرت منا طموحاتنا؟ و قد فرت منا ابتساماتنا و ضحكنا؟ ما فائدة من يدافع عنا في صنعاء لكنه جعل تعز سبية وعدن ضحية. نحن لا ننعم لا نوم و لا لقمة ، و اخوتنا هناك يدفعون ثمن حسابات الساسة. نحن لسنا سعداء و فوق رؤوسنا الطائرات السعودية . نمضغ الإهانة جميعا و نبلعها. ربما نحن لم نمت حتى الأن.... لكن قد نموت في اللحظة القادمة." خنقتني العبرة مرة اخرى و توقفت عن الكلام. لا أريد ان ابكي في حفلة خطوبة. الناس مش ناقصة كآبة! احسست نفسي من حزني تحولت الى منديل اسود. صدقيني يا صديقتي اذا كنتِ تحقدين على من قالوا ارحل فهم عليك أحقد. سمعتها تتنهد. فتحت موبايلي لأرى كم ساعة. احسستني تحدثت اليها لمدة الف عام. عادت تحدث النساء : - " رجال الله ، يا اخواتي طبعا سمعتين. بيحققوا انتصارات ساحقة في نجران. الله اكبر! قتلوا 1800 من الجيش السعودي و دمروا 1200 آليات سعودية. ها!!! ايس تحسبوا انتوا؟!  فجروا الكهرباء في نجران . و انفجر صاروخ في الرياض ،  هاا!!! و الا كيف ؟! مثلما ألموا عاصمتنا ، ألمنا عاصمتهم! اخترقوا قناة الاخبارية السعودية بصورة الزعيم و زامل! ارسلوا ارانب تركض في الحدود و على اعناقها " صنعاء بعيدة الرياض اقرب!
جن ! اصحابنا جن !!ربي يحرسهم .الأسرة المالكة قد بتواجه تمرد داخلي ! اطلقوا رجال الله صاروخ لعسير ، والثاني لجدة و الثالث قتل ضابط كبير في جيزان و ......" قاطعتها شابة صغيرة قائلة :- " ص!لي على النبي. عاد الضلال بَين و الهدى َبين." اجابت و هي تتلفت بين وجوه النساء :- " من دلال و من هدى؟ معرفهنش!".... دخلت الخطيبة فزغردنا لها ، ثم قمت متعجلة العودة الى منزلي. عندما اخرج و اقابل هكذا ناس اكتشف ان جنة امثالي منازلهم.  
أحدث أقدم

نموذج الاتصال