جَن من الجِن

 

خرجت من بيتي في اتجاه عملي. أسبق شروق الشمس كل صباح لأنني اصحو قبلها. احاول كل صباح ان اتفاءل بالحمد والشكر وابتهج. كيف لا، والصبح فرصة ومساحة باتساع السماء لمليون بشرى. كيف لا، وقد سبقت الشمس. بل وأشرقت. اقود سيارتي وفي الشوارع تلاميذ يتجهون لمدارسهم. في السماء تبتسم لنا عصافير. تقول لنا  ما اشبهكم بنا، تصحون باكرا مثلنا وتتحركون في اسراب مثلنا. هل تقربون لنا؟ ليت والله يا عصافير حرة، في هذه لسنا مثلكم. ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------على  على جانب الطريق تلميذ اختار ان يذهب الى مدرسته راكلا قارورة مياه معدنية فارغة. لم يكن يركل بقدر ما كان يلعب مع القارورة. كنت أنصت وانا في سيارتي بإعجاب شديد لأغنية ايرانية عن ثورة 2022الأخيرة.اسم الاغنية براي. اسم المغني الذي تم طبعا اعتقاله شيروين حاجي بور بسبب اغنيته والتي اثرت فيَ بشكل شخصي كثيرا، لأن اغنيته تحولت الى نشيد لثورتهم. اللحن شجي جدا. الكلمات فهمتها بعد قرأت الترجمة من الفارسية للغة الانجليزية. أحسست الاغنية اغنيتي. حين سمعتها وقرأت ترجمتها لأول مرة أدمعت.  لكن، لماذا اسمع هذا الوجع الذي يقشعر البدن الان وانا قد سبقت الشمس. لماذا اسمع اغنية مبكية اما كنت متفائلة ومبتهجة؟ اطفأت المسجل داخل سيارتي.

مررت بالمجانين الثلاثة في حينا. اثنين قدامي والثالث انضم مؤخرا. لا يزال شعره مثل شعرنا. لم يتخشب بعد ولا طال مثل شعر المجنونين السابقين. كان اثنين منهم نائمين تحت شجرة وحيدة. اما الثالث فكان يمشي في الشارع حافيا يدخن السجائر. لسبب أجهله أشفق على المجنون أكثر مما أشفق على مريض السرطان. مريض السرطان يدرك ما به، يدعو الله أن يمن عليه بالشفاء، يحرص على العلاج. ينتبه لروحه العزيزة. اما المجنون فبعد ضياع عقله لا تعرف حين تراه هل لا زال انسان ام انتمى ليلا لفئة اخرى من مخلوقات الله؟ حاولت برغم كآبة منظر المجانين في ايامنا أن ابتسم. انا في وطني اليمن، فكيف لا ابتسم. انا متجهة لوظيفتي فكيف لا ابتسم؟ انا بخير فكيف لا ابتسم؟ اتعمد تجاهل التفكر في حال اليمن لأنني ان فكرت فيه لا ابتسم، بل اتألم. ابتسمت، لا بأس يا قارئي، لا بأس نحتاج أن نمثل، نحتاج أن نكذب عندما نتبسم ونحن نرى أمام أعيننا وطنا اليمن يحترق وسط السنة اللهب.

وصلت الى اللفة اليمين التي توصلني الى الشارع المؤدي الى مقر عملي. رأيت منظر صعقني لدرجة انني ابطأت سرعة قيادتي - البطيئة اصلا - لكي اتفحص. طالب يرتدي زي مدرسي لونه بيج، بدا لي الصبي في السادس عشرة او السابع عشرة من العمر. ما صعقني ان الولد كان ماشيا يكلم نفسه. رجحت ان سماعة موبايله في اذنه وهو يتحدث مع شخص. غير انني لم أجد لا سماعة ولا حتى موبايل. بل لم يكن الطالب يحمل حقيبة مدرسية ولا كتاب. هل أصبح الشباب من الجيل الجديد يجن في اليمن؟ ولماذا؟ لا يجن الا من لم يستطيع عقله تحمل التناقضات التي تعجننا يوميا صباح مساء. اما هذا الصبي فهو بأسره لا زال تحت رعاية أبويه ومسئوليته تتلخص في الدراسة. من جننه؟ كيف استطاعوا حتى؟ الدفع بصبي للجنون ليس بالمهمة المتيسرة. تأملته أكثر. نعم انه يحدث نفسه بإسهاب ويرفع ذراعيه في انفعال كأنه يشاجر الوضع ويشتمه. يحق لك يا صغيري. أنت ضحية الوضع الذي نحياه ونحن اصلا رافضين له. نحن جيل الكبار تزودنا  من نضجنا بالقوة، بالصبر وبالاستيعاب اما هذا الغض الصغير من اين يشتري النضج وهو صغير السن هكذا؟ وضع لا يتقبله عقل. وضع لا يقبه انسان حر. حال لا يقبله أي انسان ذو كرامة. حال مزمن الصبر عليه وعلى احباطه ويأسه.  ها قد جننوا حتى أملنا في المستقبل. ابناء الناس بالمناسبة ليسوا " عيال أبوك"! لم اعي بنفسي الا وانا اشهق بكاء. اردت ان أكلمه لأطمئن هل هو فعلا مجنون ام انه فقط شرد في الحديث مع نفسه. انزلت نافذة السيارة اليمين وناديته: - " ها يا ابني. اين أجد محطة بترول قريبة؟" التفت اليَ. أدهشني جمال وجهه وعينين شديدتي الاتساع كالأمل. تفرج على دون ان يرد. ثم اقترب من نافذة السيارة فكررت سؤالي: " هل أجد هنا محطة بترول قريبة؟" لست أدري لماذا ابتسم، ثم ضحك كأنما قولت له نكتة. واصل سيره ضاحكا محدثا نفسه. تيقنت انه قد فقد عقله. إذا اضاع الانسان عقله ضاع هو برمته. اسنانه شديدة البياض كلون قلبه. ابتسامته ودودة. لعله كان طالب مجتهد من الأوائل. لعل أحدهم كسر مجاديفه بينما هوالى مدرسته سائر. وهومن قد خطط ان يدرس الجامعة في الخارج. رأيته عائدا الى حيث كنت أقف قائلا لي: - " نحتاج محطة تزود اليمنيين برواتبهم." مضى مرة اخرى. خمنت سبب فقدانه عقله! موضوع تبخر الرواتب هوما أفقده عقله؟ اباه في البيت بلا راتب ومعلميه في المدرسة مثل ابيه. الكل بلا رواتب وناس تبني قصور وعمارات ناطحات سحاب.

واصلت قيادتي لسيارتي وتجاوزته. سالت دموعي حتى تبلل وجهي. فتحت المسجل وانصت لأغنية " براي" وانا ابكي. بكيت على جيل كامل عين الله تحفظه وترعاه اراد ان يفتتح مشاريع ليمن أفضل، تعليم أفضل، تغذية أفضل، صحة أفضل، عدل أفضل، حرية أفضل، حقوق أفضل...لكن قوبلت كل مساعيه بافتتاح مقابر. جيل غض وبريء. جيل نظيف العقل والقلب والضمير. وسخوه بالعبودية الخضراء والخزعبلات. جيل يتشبث بطموحاته كما يتشبث الجنين بالحبل السري. جيل بدلا من أن يتمتع بشبابه يلقي نظرة حسرة على طفولته متشحة بالحنين. جيل تتوسل اليكم الانسانية ان تتركوا ترميم منازل او ترميم منصة اوترميم شارع و هبوا لترميم هذا الجيل.جيل يدافع عن كرامته ويخبئها في خزانة روحه لئلا تتعرض للتهشيم... وحوله من يسعى جاهدا لتحويله الى بهيمة في قطيع. جيل رائع جميل، جيل لن ينصاع. جيل مثلما تكافح البشرية الفيروسات يسايف هو الضياع. في الختام يا قارئي قل معي تبا لكل فيروس لا يتغذى الا على الجياع!

 


أحدث أقدم

نموذج الاتصال