الضاري في داري
خرج أخونا الأقوى، الضاري من الدار ونحن محدقي الأعين، فاغري الأفواه
نتأمل في ذعر أخونا الرضيع اليتيم بعد وفاة والدينا، كان يحبو فدخل في غرفة أخونا
الضاري الممنوع الإقتراب منها. فما كان من الضاري إلا أن أوسعه ضربا، ركلا ولكما
حتى تطايرات دماء لثته على الجدران. شاهدناه وقلوبنا تذوب شفقة خائفة، ملقي على
ظهره يبكي بكاء شديد. طفل صغير لا يعرف أن دخول غرفة الضاري من الممنوعات. لم يجرؤ ايا منا أن يقترب ليُجلسه أو يمسح
دماءه عن خديه. نحن نخاف أخونا الضاري. أنه الأقوى، الأدهى. فكان يفعل كل خطاياه
في حقنا دون حتى أن نعترض. فقد أرهبنا، أجبرنا أن نقتنع غصبا أنه من يدافع عن
شرفنا و العرض. لذا تركنا أخونا الرضيع اليتيم يبكي متشنجا فوق الأرض بلا مغيث.
أخونا الضاري هذا إذا مشي في أرجاء الدار نتجمد. عندما يتكلم نزدرد
ريقنا الثلجي. حين يغضب نتوارى كلا خلف ظهر الثاني. نخافه لأنه أسد. فمن منكم يدعي
أنه لا يخاف الأسد كاذب. كيف لا؟ هو الأقوى، الأدهى. هو من يدافع عن شرفنا والعرض.
لذا تركنا أخونا الصغير اليتيم يبكي حتى شحب صوته على الأرض.
في صباح ذلك اليوم زأر أخونا الضاري معلنا أن نتجمع لحضور إجتماع،
رمينا ما كان في أيدينا من مهام منزلية وركضنا نقف أمامه. إذا تأخر أحدنا استهدف
ضلوعه رشقا برمحه وسهامه. ضاري أنه والله ضاري. وقفنا أمامه موافقين على ما سيلقيه
علينا قبل أن يتحرك لسانه. لكل الشعوب الحرة رئيس فذ أو قائد قدوة...و للشعوب من
أمثالنا طاغيته وإمامه. هكذا هي القصة. وقفنا ننصت إليه مرتجفين. قال لنا:-" من الأن فصاعدا الوجبات
الغذائية الثلاث سوف تتقلص إلى وجبة واحدة فردية فقط قبيل النوم." ثم أخذ
يتحذلق أن من الاسلام أن نتناول وجبة واحدة لأن ليلة القدرهي ليلة فردية، و أسماء
الله الحسنى عددها فردي. القى محاضرة عن الاقتداء بالارقام الفردية لأنها تقربنا
من جنة الله التي وعد الله عباده الصالحين. لم يجرؤ أيا منا أن يقاطعه ليذكره أن
الوجبات الثلاث التي يتناولها البشر هي أيضا عددها فردي. من ذا الذي سيتسائل؟ نحن
نخافه. قال وجبة واحدة قبل النوم لأن عددها فردي وذلك يجعلنا من الصالحين فهززنا
رؤوسنا الذليلة مؤيدين و مباركين القرار. كنا كلنا نعرف أنه كاذب، و أنه فقط قرر أن
يأكل قوتنا. لم نعترض! كيف نعترض وهويحمي شرفنا والعرض؟!
خرج الضاري من داري عقب اعلان قرار الوجبة الواحدة التي ستجعلنا جوعى
لكن من الصالحين. التففنا حول أخونا الصغير. أجلسناه. كلنا أذكياء، نفهم كل شيء،
حتى هذا الرضيع يفهم. أذكياء لكن جبناء.مسحنا دمه عن الجدار. أحتضنته أنا فنام في
حضني المسكين، فقد كنت أقوم بدور الأم عقب وفاة والدتنا. ليت و الأباء و الأمهات
كانوا من الخالدين لما حدث لنا ما حدث. اليتم مذاقه عجيب.
أنزوينا بعدها كلا في ركن من الدار. أنزوينا داخل أرواحنا الحزينة. كنا
حزانى لدرجة العجم. فكثيرا ما يصيب المرء بالبكم من شدة الألم. إسألونا نحن اليمنيين،
سنحكي لكم كيف يكون الفم خزانة لألف شكوى تطير عبر الفضاء إلى الله و الفم أعجم! هناك
طغاة يغتالونك ويقبرونك، وهناك طغاة يعذبونك في حياتك حتى تصبح أمنيتك أن تموت
ويقبرونك. يختلف الطغاة. لعنة الله على من أجبر الناس يهربون من بلدانهم و
يغتربون، و الله ينتقم ممن سجن الناس في بلدانهم وأشبعهم أهانة كرامة، تنكيل و
أرهاب حتى ذاقوا مرارة الاغتراب فوق تراب أوطانهم. غربة الوطن أوسخ من غربة بلاد
الناس بمليون مرة.
قضينا الأيام التالية لذاك القرار جوعى طوال النهار. كانت وجبة واحدة
فعلا لا تكفي. أكتشفنا اكتشاف مرير وهو أن الانسان اذا كان جائعا لا يأبه لكرامته.
وهي الأخرى تعطيه ظهرها وتخاصمه. لذا يشحذ الشحاذون!أما نحن فلم نشحذولم نأكل. لا
أحد يسكت عن جوعه الا عبد ذليل. لكنا سكتنا. هزلت أجسامنا، آن أوان أخي الذي يحبي
أن يمشي، كنت أمسك يديه كي أمرنه على المشي. كان جائعا فكيف يمشي،أين يذهب؟كانت
عيناه تصارحني جهارا" لا تعلميني المشي أريد أن أكل لا أريد أن أمشي! "
القوت صار حلم كل واحد منا. أما أخونا الضاري فقد كان واضحا أن قوتنا في بطنه. فقد
تدلت كرشه و انتفخ خديه. بشرته صارت ملساء
لامعة موردة، فمه مكتنز في حمرة حتى غرت منه أنا و أختي لأننا إناث وهذه الصفات أنا وهي الجديرات بها و
ليس هو!
بعد تنظيف البيت، دخلت أنا لأطبخ لأخونا الضاري الغداء الذي سيأكله
وحده. أخي الصغير الذي أضرب عن المشي وأختار أن يظل يحبو كانت مهمته أن يقطف قات
الضاري. كنا عبيد للضاري بكل ما في الكلمة من معنى. كان يردد على مسامعنا أنه يحمي
شرفنا و العرض. أي شرف يتشرف به جوعى؟ بعد أن أكملنا كل المهام المنزلية أقترحت
على أخوتي الأرواح الحزينة أن نجلس سوية نرفه عن أنفسنا، بأن نتذكر " أيام زمان" أيام كنا " ناس
محترمين." أيام كنا نأكل، ندرس، نلبس، نسافر، نشتري، نقول ما نشاء. أيام كنا
ننجح، نطمح. أيام كنا احرارا رائعين. أيام كنا مرحين نضحك من أسخف النكت. أيام كنا
مطمئنين، ننام بأمان.ايام كنا بشر نهدف لأن نكون من نجوم سماء البشرية العظيمة.
أما الأن... فالكل جائع. اذا تسول اليمني ومدت اليمنية يدها للشحاذة
لم يعدهناك من تسخن الدماء في عروقه وينتقد هذا المصير. صار المجتمع المحيط يقول
اتركوه يشحذ، اتركوها تتسول انهم جوعى و الجائع ضائع. أيضا البنات الصغيرات الحلوات اللواتي يبعن
الفل ظاهرا، و يبعن غير ذلك باطنا لا أحد يصون كرامتهن و يبعدهن عن الشوارع،بل صار
سلوكهن سلوك شائع. لماذا؟ لأن اليمني جائع. النساء المسنات اللواتي يقتاتين سوية
مع الكلاب من اكوام القمامة. لا بأس في ما يفعلنه، فهذا ما يضطر لفعله الجائع. صار
كل مهين للكرامة، وخادش للحياء للحياء، وجارح للكرامة لا بأس فيه، فأنت يا يمني
جائع. افعل ما شئت لا مانع لا مانع يا ضائع. المهم أن تظل صامت. فمك مختوم بالشمع
الأحمر و روحك الخائفة أودعت أحلامها العزيزة لدى من لا تضيع لديه الودائع. مالي
بت أكتب وتشجيني كلماتي فأدمع.ابكي لا مانع من البكاء. المهم أن تخرسي... الصمت
أصعب البضائع.
تذكرنا أنا و أخوتي أيامنا الحلوة الماضية، ثمسمعنا صوت باب الدار
يُفتح. عاد أخي الضاري. تطايرنا كمن نقط قطرة ماء وسط زيت مغلي. قدم لنا الوجبة
التي كلمنا أن نتناولها قبيل النوم. أخي الذي يحبو رفض أن يأكل. لعله أدركانه
تناولها أولم يتناولها فهو في الحالتين جائع. بعدها أمرنا الضاري أن نخلد للنوم.
كيف ينام الجوعى؟ أمرنا أن نغمض أعيننا وألا نفتحها إلا صباح الغد. أغمضنا أعيننا
فسمعنا صوت رياح مجنونة عاتية. سيول، هيجت فيَ الجراح. بكيت مليء الدنيا دون أن
أصدر أي صوت.سئمت الصبر.
صباحا صحونا على صوت أختي تصرخ، كان الضاري يشدها من شعرها. فقد نظفت
أمس غرفته و سقط من رأسها شعرة فخاف الضاري على " طهارته". ضربها وحلق
شعرها حتى اصبحت صلعاء. حبى أخي الصغير يقبل قدميه أن يخلي سبيلها. كانت أختي هذه
مسكينة جدا. شعرها كان جميل والأن اصبحت صلعاء. أمطرت الضاري دعاء. قد نخافك يا
ضاري هذا الخوف الذي أذلنا لكن شكوتك لله الأكبر. يا مجيب الدعاء استجب لدعاء
المظلومين. تركها بقسوة وخرج. تنفسنا الصعداء لأنه غادر الدار. ركضنا اليها
نحتضنها و لملمت أنا خصلاتها. أعطيتها منديل لتربط رأسها. ليت الأباء و الأمهات
مخلدين. فجأة سمعت :-" مياو." أستغربت من أين يأتي المواء. تكرر المواء.
سألت أخوتي:-" هل سمعتم ما سمعته؟" أشار أخي الذي يحبي أن أصمت. أسترقت
النظرمن نافذة دارنا فوجدت الضاري يموء كالقطط! كانت صدمة مروعة. التفت إلى أخوتي
غير مصدقة ما أسمعهن سألتهم:- " هل قال مياو أم أنني أتوهم؟"
الضاري قط؟ ليس أسد إلا على صلة الرحم. قط مرقط متسخ ساقط. يا للهول.
يدعي انه يحمي شرفنا و العرض وهو ينتحل شخصية الأسد، يرتزق، يأكل قوتنا وأموالنا يسرق.
وفي بيتنا يعمل نفسه " أسد" و في الخارج هوقط. قال مياو انا متأكدة... أنا سمعته....