بعيدا، يا قارئي عن الحرب في اليمن..
بعيدا عن المنازعات السياسية في اليمن و ُسعار فيروسات الفتن. بعيدا
،عن اغتيال...عفاش.
بعيدا عن غطرسة قتلته و بعيدا عن هيمنة الأوباش .بعيدا ،عن هذه
" الُغصة " الجماعية التي خنقتنا. بعيدا، عن ما نراه بأم اعيننا من دمار
تام و شامل لكل ربوع الوطن. بعيدا عن كل ما حل باليمن!
بعيدا عن غلاء الأسعار. بعيدا عن الجوع و التجويع المتعمد ،بعيدا ، عن
اليتم و التشريد. بعيدا عن ما نحسه من
غربة في الأوطان.
بعيدا ، عن تبدد الشعور بالأمان. بعيدا عن ما نكتوي به ليل نهار
من شتى الأحزان! كيف لا؟ لسنا ماشية و لا
بهائم و لا نعام. كل المخلوقات لها يا ناس مكان اسمه " وطن". ان اقوى
انتماء يحسه الانسان هو انتمائه للوطن.
فما بالك بالانتماء لوطن هو " اليمن"؟
اليمن بلورة كريستال تحتوي في قلبها : العتمة و النور، التخلف و
الرقي، الجمال و الدمامة ، الحزن و الفرح ،نبل الأخلاق و الوقاحة، اليأس و الأمل ،
الفقر و الغنى ، العافية و المرض، وطني عذراء في قمة الطهر و ابناءها كثير منهم في
منتهى العهر! وطني بلورة تحوي كل هذه التناقضات
و مازال برغم ذلك "
وطن"!
بعيدا عن المؤامرات العالمية ، بعيدا عن عدوان جارتنا السعودية. بعيدا
عن تدخل أمريكا المحتمل و الوشيك. بعيدا عن رعب الصواريخ تتساقط على رؤوسنا بكرة و
عشيا. بعيدا عن قبلة الوداع طبعناها على ثغر الجمهورية. بعيدا عن تاريخ نتن ،كريه
يعيد نفسه في عجلة روتينية ، اسميت العجلة هلم جر يا ملكية. بعيدا عن فحش ثراء
الحكام اما الشعب فإلى الجحيم . ان هو الا
" شعب" سهل اذا اقتات من القمامة سهل.
بعيدا يا قارئي من كل هذا الوحل.
سأحكي لكم اليوم عن بنت تجسد في رأيي الشخصي مظلمة إنسانية. اعمل في
مكان ادرس شباب و شابات اللغة الانجليزية. كل اسبوع يكتب الطلاب مرتين عن مواضيع
متنوعة يختارها الاستاذ وفق ما يشاء. تتراوح المواضيع وتتسع باتساع الفضاء الحر
فأختار لطلابي المواضيع بكل حرية. اكتبوا عن انفسكم ، اكتبوا عن أمكم ، أباكم.
اكتبوا عن اليمن. اكتبوا عن حلمكم في بيت المستقبل. اكتبوا عن مستقبل الحلم.
اكتبوا عن لو لم تكن انسانا فماذا تختار ان تكون من حيوان ،طير او حشرة و لماذا؟
اخترت لطلابي تلك المرة ان يكتبوا عن اسعد يوم مروا به في حياتهم و
اشترطت ان يكون يوما لا يُنسى. صباح اليوم التالي سلموني اوراق كثيرة و كلها مثلهم جميلة. كتب احدهم عن يوم
تخرجه من الثانوية و كيف احتفل مع اسرته ثم مع اصدقاءه. كتب احدهم عن يوم عيد
ميلاده العشرين حين تلقى هديتين : لاب توب من والده و موبايل من عمه. ثمنت جدا
علاقتهم الأسرية. كتبت طالبة انها ظلت وحيدة والديها حتى سن الثانية عشر ثم انجبت
والدتها أخ لها فسعدت به لدرجة انها حلمت ليلا عندما نامت انها تطير. كتب طالب عن
يوم خطوبته، سرد لي سعادته كونه من الان فصاعدا اصبح لديه بنت ستشاركه الحياة
مستقبلا. اوراق كثيرة كلها سعيدة جدا. لكن استوقفتني ورقة طالبة ، لدرجة انني اعدت
القراءة لأنني لم اقتنع انها عن يوم سعيد اصلا.
كتبت لي هذه الطالبة عن يوم راح والدها واخاها الكبير و اخوتها
الاثنين الاخرين الى القرية لطلب يد بنت من قريتهم عروسا لأخيها الكبير. ظننت لأول وهلة عند
القراءة ان الطالبة سعيدة لسعادة اخوها الذي سيتزوج. لكنني فوجئت ان خطبة اخوها لم تكن السبب البتة في سعادتها في ذلك اليوم. حكت لي البنت انها البنت الوحيدة في
البيت. انها و والدتها المريضة كما ذكرت لي بمرض مزمن في الظهر يقمن يوميا بتقديم
الغداء للأب و الابناء الذكور. هم يأكلون اما هي و والدتها فتكون مهمتهن توزيع
" المرق" ثم رفع ما شربوا به المرق. ثم يقدمن الأرز و الطبيخ و احيانا
يسبق ذلك الشفوت و السلطة و احيانا هريش. ثم يرفعن ذلك ويقدمن مقلى السلتة و يوزعن
الدجاج او اللحم. الخلاصة؟ خدمة سبعة نجوم و أكل ذريع! بمجرد اكمالهم غداءهم يقمن
هي و والدتها لغسل ايديهم فتغسل هي ملعقتين لأن والدتها تكون في منتهى التعب و
يجلسن ليأكلن بعد ان يغرفن لأنفسهن مزيدا من الأرز والطبيخ و احيانا يأكلن مما
ابقوه لهن جانبا من الشفوت و السلطة. ثم
كتبت لي كيف تضطر هي و احيانا امها للقيام مرتين اثناء تناولها غداءها لكي تقرب
لهم صحن رواني او بسبوسة و كؤوس من القهوة القشر. تعود امها لتكمل غداءها وهي من
تعبها تشعر بالشبع. حكت لي البنت انها اخذت أمها لطبيب العظام ، فلما تأخر الطبيب وقفت
امها على عجالة و اخبرتها ان الطبيب تأخر وقد حان وقت طهو وجبة العشاء، همست في
اذنها " هيا نرجع!". انذهلت! يعني لا تتعالج ولا تشبع!
حكت لي الطالبة ان يوم سفر والدها و اخوتها للقرية لهو اسعد يوم في
حياتها. حكت لي انها – بمجرد خروجهم من البيت - حضنت امها و دارت بها راقصة وهن
يضحكن. طهت هي الغداء لكي ترتاح امها. كتبت لي انها جهزت غداء بسيط لكي ترتاح هي
الأخرى. اكلن كباب و سلطة وشبس . حكت انهن أكلن أمام التلفاز ليضاعفن شعورهن
بالراحة. بل ان الأم اخذت صحنها و امتدت تأكل مستلقية على جانبها على الارض امام
الشاشة من شدة الاستمتاع. ( مع ان الناس
لا تأكل ممددة.) حكت لي كيف مضغت طعامها طويلا لتتذوق متعة انها تأكل و دون اعياء
و دون جوع.
اكملت القراءة و تفكرت مليا. ما هذه الحياة، التي تشابه حياة العبيد
في التصرفات و في المذاق؟ لماذا لا يأكلون سوية؟ لماذا لا يجدون امرأة تساعدهن في
التقديم و رفع الصحون؟ لماذا لا يساعدون امهم و اختهم؟ اسئلة كثيرة تسابقت الى ذهني فلم اجد لأي منهن
اجابة. كتبت اسفل ورقة هذه الطالبة. "كتابتك للأسف رائعة ، للأسف لأنها
احزنتني." في اليوم التالي بعد ارجاع الورق للطلاب جاءت
الى الطالبة تشكرني على الثناء على كتابتها. سألتها و انا اتأملها بعين الأم :-
" من اين انتم في اليمن؟" اجابت
:- " من صنعاء." ابتسمت لها و ادنيت عيني لئلا ترى ما تجمع من دمع في
المآقي. شيء فظيع يا قارئي ان ُتسخر الفتاة شابة او امرأة لخدمة الذكور . حتى
" الأم" التي هي " المصدر" و ذريتها فروع. شيء فظيع الا تأكل
الزوجة برفقة زوجها و اولادها. شيء فظيع الا تأكل البنت مع ابوها و اخوتها. شيء
فظيع الا يستشعر الذكور وهم يتلذذون بمذاق الطعام اللذيذ بأي ذنب لأن من طهى ينتظرهم
لكي يأكل. شيء فظيع ان تتولى النساء كل المهام و هن يتضورن جوعا و اعياء و يكمل
الذكر طعامه و ينهض دون ان يرفع حتى ملعقة. شيء فظيع ان تجوع الأم و البنت و
الذكور يأكلون ،مالكم ، كيف تحكمون؟ الظلم تراث في اليمن فيما بدا لي بدأ منذ عصور
الجدود.
لي في الختام سؤال:
اذا كان الرجل اليمني يرتضي ان يظلم و يستغل زوجته ، ابنته، اخته ،
امه.... فكيف بالله ينصف اليمن؟
سلوى الارياني