ذهبت
اخي و انا الى المحكمة لكي يفصل بيننا القاضي و يحكم من المسكين اكثر من
الثاني ، انا ام اخي؟ اننا – اخي و انا – قد اختلفنا طويلا ، قد تعاركنا
كثيرا ، قد حقدنا على بعضنا البعض . لكن " الأن" جمعنا رحم محنة واحدة.
مما جعلنا نكتشف عندئذ اننا في الأصل اخوة و ان مصيرنا في نهاية المطاف
واحد. نواجه معا هذا الزمن المثقل بالمؤامرات الصهيونية ، المحمل بالمخططات
العالمية ، التي لم "يتكتكوا" لها الا لتنجح ، زمن ملئ ببيع و شراء الذمم.
أمة من اجل مصالحها تكاد ُتفني امم.
كنت
اقول انني انا المسكين اكثر من اخي وكان هو يؤكد انه مسكين اكثر مني غير
اننا اتفقنا ان كلنا مساكين. دخلنا المحكمة. القاضي رجل مسن و مهيب لكنه
مهرج و وجهه مرسوم مثل وجوه المهرجين .
مددت
يدي لأصافح يد القاضي الذي لم يرفع نظره من فوق الورق التي كان يقرأها
لكي حتى يراني ، فسحبت كفي الممدودة بغباء. ثم اقترب اخي ليصافحه فقفز
القاضي واقفا ، رمى نظارته خلف ظهره وبكلتا يديه صافح يد اخي مظهرا اسنانه
في ابتسامة عريضة تمثيلية. كان جليا من سيكون المسكين منذ البدء! تجاهلت
اُلفرق في تحية القاضي الذي نتوسم فيه العدل ، الانصاف و الحيادية. ادركت
ان اخي اشتراه مثلما اشترى الحياة.
استأذنت
القاضي ان يأذن لي بسرد شكواي اولا لأنني كنت اتضور جوعا ، وخفت لو بدأ
أخي اولا ان يطيل السرد فيأتي دوري فلا يكاد صوتي – من شدة الجوع – ُيبين!
لكن القاضي رفع حاجب و انزل حاجب في استنكار لطلبي و رد علي قائلا:-" و هل
تعلو العين على الحاجب؟ " اشار بذقنه الى صفوف الحاضرين للجلسة ففهمت انه
يقصد ان اروح هناك. بينما نهض هو و جذب كرسيه من تحته و وضعه في قلب قاعة
المحكمة ، فتح كفه لأخي ُمرحِبا :- " تفضل ، ُكلي آذان صاغية." ثم عاد الى
مكانه و استمع الى اخي و هو واقف. شعرت انني سُأُظلم. احسست انني خائف.
عضضت شفتي في تحسر ، يا الله كم راحت منا اخلاقنا ، باتت المادة سيدة
الأهداف ، يا حسرتي كم انا لهذا الواقع آسف. لكن لا بأس الأن يسرد اخي
شكواه ثم اسرد انا شكواي و يستمع الينا الحاضرين و القاضي، سيحكم القاضي
انني انا المسكين. سيظهر بعد قليل الحق من الباطل. اخي صاحب مشاريع ، بنوك
و شركات و انا – و اعوذ بالله من كلمة انا – عاطل. حين يمرض اخي يأخذ
اقوى واغلى الأدوية و لا أجد انا في جيبي قيمة حتى دواء بديل من البدائل.
قبل ان ننصت للتفاصيل او نضيع في أي متاهة، بداهة هكذا بداهة من المسكين؟
، بدأ اخي بالتظلم ، على يمينه عاملة تمسح عن خده كل دمعة صناعية تسيل.
اما امامه فكان هناك خادم يحمل فوق ظهره كرش اخي المتخمة فوق ظهره النحيل ،
و الخادم بكله لا يكاد يبين. قال اخي في شكواه :- " تكالب علي اشقائي ،
بين عشية و ضحاها و اتهموني بما ليس بي. بدون تحذير ، بدون سابق انذار ،
دون حتى ان يسمعون دفاعي عن نفسي عاقبوني! كم في هذا ظلم؟ كم في هذا قسوة؟
صحوت صباحا لأجد انهم قد طردوا اولادي من بيوتهم. بنوا سياج حولي. خنقوني.
منعوني من الذهاب اليهم ، حرموا علي ارضهم و سماءهم . اوقفوا سفرياتي ،
جمدوا حركتي و خسروني ملايين الدولارات في يوم واحد! قللوا من قيمتي !"
كان القاضي ينصت اليه و يتظاهر انه يكفكف الدمع. قاطعت اخي و وجهي مغسول
بالدمع من وجع واحد و لأنه كان يروي حكايتي فيما عدا الدولارات فانا لا
املكها ، و فيما عدا القيمة فقيمتي لم يقللوها بل اعدموها الله يعدم
قيمتهم. قاطعت اخي مقاطعة مليئة بالشجن قائلا للقاضي:-" تدمع يا حضرة
القاضي؟ ابكاك هم اخي؟ فاسمع اذن شكواي امنتك ان تسمع!" زعق في وجهي القاضي
لأنني قاطعت و بسبابته اشار الي ان اعود حيث كنت اجلس بين الحضور. واصل
اخي شكواه. قائلا:- " يهدفون الى القضاء علي! اخوتي! ينفذون اوامر عدونا
المشترك خشية قوته ، لا يفقهون ان دورهم آت لا محالة الواحد تلو الأخر.
كان حري بهم ان يتصدوا للمؤامرة." قهقهت سرا بين جداريات قلبي و عقلي و راح
صدى ضحكي يرقص و يعربد و يغني. قلت له في سري :-" هذا كلام تقوله لنفسك يا
ذكي! الغرب يأمرك و انت تلبي." في ختام شكواه قال اخي :-" لكن انا صاحب
مال و نفوذ و لن اسكت! سوف ادافع عن نفسي ، سأرد اعتباري و سأطفئ ناري."
ذهب اخي و جلس على المقعد الذي تركه له القاضي مما افهم القاضي انه انتهى
من شكواه. فأشار الى القاضي بذقنه و قال :- " يا يييه ! انت ! ييه! هات ما
عندك و اختزل." وقفت وسط القاعة ، لا ادر من اين ابدأ او كيف همي يضمحل.
صمت لبرهة. خفت ان نطقت ان يخونني صوتي فيهزمه دمعي . كانت وجوه الحاضرين
مترقبة لما ساقل . كلهم أذان صاغية. في احداقهم حرارة من يتابع امر عظيم
يهمه. كيف لا؟ و في عروقهم اجري مجرى الدم. كيف لا ، و اصولهم كلهم مني.
كيف لا؟ و انا في التاريخ ، انا المذكور في القرآن ، ايام كانوا اطفال
يتهجون الألف باء كنت انا الُمعلم. بدأت بسرد شكواي قائلا للقاضي:-" انا يا
قاضي المسكين منذ الأزل. لم ار في عمر لا اجدادي و لا عمري انا عهد تطور ،
بناء، نماء، ثقافة ، وعي و لا حتى صحة. لم اتمتع يوما بمال ، و لا ناطحات
سحاب و لا شوارع زجاجية. لم اذق يوما طعم عزة نفس لأن فقري اذلني و لم اطر
على جناحي الحرية. انا المسكين يا قاضي, لا املك شيئا البتة. فتش جيوبي لن
تجد الا تاريخ معفر بالتراب ، وصفحات ناصعة ابية. انا الموجود منذ عهد
الرسل." قاطعني اخي محدثا القاضي:-" آه نسيت ان اخبرك يا حضرة القاضي ان
اطفالي في حالة تأزم نفسي فظيعة. لا يستطيعون بسبب الحصار ان يأكلون الآيس
كريم في نيويورك ، و لا يسبحون في جزر هاواي. لأننا نعاني من العزل و
النبذ. ظلمونا اخوتي بالحصار يا سيدي القاضي." ضحكت برغم الدمع في خدي ،
سألت اخي بتهكم :- " منك صدق؟ هل انت جِدي؟ تأزم من؟ صغارك؟ هيا و لا
تجعلني افك لجام خيل حقدي ، فأحقد على اطفال و اقول لك حين تقول تأزم صغارك
، الله يزيدهم تأزم و الله يزيد و يبارك. عيب علي ان احقد على صغار فلا
تستفزني! تعال شوف صغاري ُتبتر منهم الأطراف ، ُيجزرون بلا ذنب في عرس ، في
سوق في مدرسة كأنهم خراف. يبكون فقد الأب ، الأم ، اليد ، القدم و يبكون
على اطلال الدار. عار عليكم ان تضربوا المسكين ، عار و الف عار." زجرني
القاضي بالرغم انه كان دوري في الشكوى و اخي هو من قاطعني قائلا لي :-" اش!
عندما يتكلم الكبار ، يسكت الصغار!" اجبته و دموعي تفيض من كل مسامي بعد
ان تورمت الأحداق :- " انا صغير اذا قست عمري بما املك. فعلا لا مال ، و
لا صحة و لا ازدهار. فقط لي تاريخ لا يبرحني و لو قصفتني طائرات الدنيا.
اما اخي هذا فوليد بضعة اشهر و ساعة! لكن لأنه غني ما أن توعكت صحته هبت
الدنيا تنافقه ، تقدم الحلول و تقترح مبادرات لمنع ضياعه. اما انا تعال شوف
يا حضرة القاضي منزلي تتطاير منه النوافذ، الابواب و السقف. اجيالي ضاع
مستقبلهم و تاهت منهم آمالهم. حطموا منا مستشفيات ، مدارس و شوارع. اخي يا
حضرة القاضي ثري فلا تقلق عليه سيبيع ما لا يحتاجه و لمصلحته اشترى. اما
اننا فأصبر و ادعو الله ان ينتقم لي ممن اغار علي و افترى!" وقف اخي امامي
وجها لوجه صارخا :- " انت امي ، متسخ غبي تقبل عودة نظام بدائي ، رجعي ."
اجبته و انا اضع سبابتي فوق حاجبي الايمن :-" لا ذنب لي فيمن يحكمني. العصر
عصر العمالة و القوة. مثلما انت لا ذنب لك في من يحكمك. تقول انني اقبل
بنظام رجعي متخلف فماذا عنك – اسم الله عليك – تأوي ارهابيين و تفسد علاقات
الاخوة. بس اخرس امانة و اسكت!"
كلنا فعلا في رحم واحد. كلنا في ظلام واحد. قد تنضم الينا اجنة اخرى. الفارق في المعاناة. شعب الحرب افنته و شعب فقط قال " آآآآه".
لكنني
احلف على غيب بالرغم ان لا احد يعلم الغيب الا الله. انني سأخرج من هذا
الرحم و لسوف ارى النور. اتعرف لماذا يا اخي سأرى النور و لن تراه انت؟
لأنني المسكين ، او بلهجتك انت كي تفهم انا " المستشين" ، لسوف ارى
النور ، و ستظل انت في رحم الظلام لأنك عميل و مغرور.
سلوى الارياني