" لماذا " و " لأن "




انها اسم لعبة طالما لعبناها اخواتي وانا في طفولتنا البسامة الذكريات والملونة الصور في الالبومات و الحية العطر في الأنف.  لعبة كانت تمطرنا زخات غزيرة من مطر الضحكات حتى كنا نرجع فوق اسرتنا على ظهورنا من شدة الضحك ، ونفر من الغرفة لتمالك انفاسنا من ضراوة القهقهة.
لعبة لها من الحنين ، مثلما لكل انسان حنين الى طفولته لكونها كانت ايام الاسترخاء،   البال المرتاح، الطهر في الاخلاق و البراءة في القول والفعل.
كانت هذه اللعبة تتلخص في ورقتين وقلمين و لاعبين. يقوم كل منهما بثني الورقة الى سبع اوست طبقات افقية لتصبح الورقة مثل المروحة او الاكورديون .يقوم بعدها لاعب بكتابة سبعة اسئلة تبدأ بـ" لماذا" و يقوم الثاني بكتابة سبعة اجابات تبدأ بـ " لأن". طبعا لا يرى كل طرف ما يكتبه الطرف الثاني ثم يبدئا بقراءة الاسئلة و الأجوبة فتكون الاجابات شديدة الاضحاك من التناقض و عدم الاتساق.  سأذكر مثال لازلت اذكره حيا في خاطري . كان السؤال " لماذا ياسمينة عصفور و هي بنت؟" ( كنا متأثرات بكرتون السندباد البحري." و تأتي الاجابة من اختي الثانية " لأن  مكرونة ماما بالبشاميل تجنن."  هاتك يا ضحك ، على سؤال في واقع الأمر لا يضحك و لا جوابه مضحك. لكنها كانت الطفولة في ثنايا اضلعنا َتضحك.  اعماق نفوسنا تتزاحم فيها الغبطة والشعور بالطمأنينة. كانت نفوسنا بكر لم يطمثها هم. تلك الطفولة كانت. اولئك الأطفال كنا. كنا اطفالا ايام كان الطفل طفل و الرجل رجل و الوطن وطن! لم تكن  الوحوش  قد استنسخت وحشيتها في ارواحنا و انيابها في اسناننا و لا مخالبها في اظافرنا ! اذكر و الذكرى حية بصوت و الوان و رائحة حين كانت عضلات بطني تؤلمني من شدة الضحك فأغادر الغرفة حتى استرجع انفاسي و امسح دموع ضحكي ثم اعود الى الغرفة و انا اضحك. غالبا كان اللاعبين اخواتي الكبار ثم انا و اختي الأصغر متفرجات و الجميع يضحك. طلبت مؤخرا من طفلين في صف رابع وثالث هما ابني صديقتين لي جئن لزيارتي ، فاستقبلتهن و ادخلتهن الديوان ثم استأذنتهن  في التغيب لربع ساعة لا اكثر. اعطيت ابنيهما  ورقتين مثنيات كتلك التي كنا نثنيها لنلعب لماذا و لأن. شرحت لهما اللعبة و اوصيتهما ان يجتهدا في اضحاكنا. وضعا موبايلاتهم جانبا و لمحت ضجر مسبق في وجهيهما. اكمل احدهما كتابة سبعة " لماذا" و الطفل الثاني سبعة "لأن" فطلبت منهما ان يقرئا  لي ما كتباه. صدمني انهم يقرئا كأنهما متعجلين الانتهاء من القراءة كي اغرب من وجهيهما فيعودا للنت و الموبايل. كانا يقرئا دون ان يبتسم أي منهما.  فهمت ان لا شيء يضحكهم لذا لم يجدوا لا اسئلة مضحكة و لا اجوبة ُتضحك. اصلا لا شيء حولهم يضحك! اشفقت عليهما ، مساكين صغارنا في هذا العصر طفولتهم مطمورة تحت صخرة الحرب ، طفولة مهشمة الضلوع ، ضحكاتهم قليلة يابسة مثل باب قديم يصدر صرير اذا فتحته لأنه يحتاج الى زيت. سبحت الله في سماءه كيف ملكني القدرة على ان اسمع سؤال اللماذا فيقفز الى عيني صورتي و انا ابنة ست سنوات انصت الى اخواتي متهيئة مسبقا للضحك ، كان سؤال أختي " لماذا نحب بابا؟" و يأتي جواب  اختي الثانية الأكبر مني " لأن بابا بقص ( بالصنعاني قبص) اذني لأنني ما عملتش الواجب. " فينفرط منا عقد الضحك حتى تنتثر حباته في كل الارجاء فنتزحلق بحبوبه و نزداد ضحكا. قارنت اسئلتنا ايام طفولتنا بأسئلة و اجوبة ابني صديقتيَ فوجدتها مقارنة حزينة.  كانت اسئلة احدهم " لماذا كلبنا في الشارع مات و هو كان يحرسنا." و الاجابة من الطفل الثاني " لأن الطائرات في السماء مخيفة."  لم اجد ما يضحك لا في السؤال و لا في الاجابة و انا من اشترطت عليهم شرط الاضحاك. بل لم اجد حتى تناقض في السؤال و اجابته ، فلماذا مات كلبنا؟ لأن الطائرات مخيفة . اجابة في منتهى الاقناع و المنطقية. تذكرت يدي في طفولتي كم كانت صغيرة و اظافري مقصوصة ورطبة  و انا اكتب " لماذا " او " لأن". اذكر بجاماتنا ونقوشها هلال ضاحك و شمس مبتسمة .اذكر لون جدران الغرفة. اذكر طعم الطمأنينة في طرف لساني. والله انني اذكرها. الطمأنينة تشبه جبل تستند اليه وليس جبل ُيقصف وقد تتكسر صخوره فوق منزلك. كان ضحكنا سخي. ضرب الكفوف بالكفوف ، تفيض مآقينا من الضحك دموع. طفولة كانت جديدة بكيسها الجديد.... اما طفل اليوم فهو كهل  يتحسر على عهد كان جنين في رحم امه في الماضي التليد. يا اطفال الحروب كم الإنسانية ُمدينة لكم بالأسف مليء الخزائن صنوف و الاعتذارات شتى فوق الرفوف.  جماعة الجن ُمدينة لكم بتقبيل اقدامكم ندما لأنها صفت منكم جند في صفوف.
نادتني ام احد الطفلين فقلت لها خمس دقائق و اعود اليكن. طلبت من الولدين قراءة كل سؤال مع اجابته سريعا لكي نكمل اللعبة و اعود لمجالسة والدتيهما. ذكرت سؤال من ايام الطفولة " لماذا طعم الفول سوداني مع الببسي البارد روعة؟" و اجابت اختي " لأن بابا يلبس الصبح كرفتة." عدت الى الواقع و كانت اسئلة الولد واجوبة الآخر كالتالي:
*لماذا ليس مع سندس اختي عروسة؟                          لان       لأن بابا و ماما اتصايحوا
*لماذا شفنا دخان من ورا الجبل؟                          لأن لان عيوني يوجعوني من الموبايل.
*لماذا لا افهم أي استاذة في المدرسة؟                      لأن  لان اختي الكبيرة بكيت امس الليل
* لماذا عم عبد العليم بواب المدرسة ُيهرب الطلاب ؟                                لأننا خايف
*لماذا الفراولة فيها مرض ونا كنت احبها؟                  لان     لأن اصحابي كلهم بيبحشموا
* لماذا الكهرباء طافية؟                                                        لأن   انا اشتي انام
* لماذا ما نكبر بسرعة  ، غدوة مثلا؟        لأن انا احمد                                          
تنهدت محاولة مني ان اتنفس تماما مثل أعرج يحاول ان يركض. اعطيت الطفلين شوكلاته، فأخذ كل منهما موبايلاتهم ، رامين القلم و الورقة جانبا و سارعوا باستخدام النت و اكل الشوكلاتة. الطفل طفل في كل زمان ومكان لكن طفل الحرب هو طفل - ضحية .الكبار من حوله يتحاربون حرب طائفية ، الجبال من حوله تدك قممها نيران صاروخية ، الناس تفر امامه حفاة بلا احذية. .. الدنيا بكل من فيها عن هذا الطفل ملهية.
عدت الى الديوان لأجلس مع صديقتيَ ، حكيت لهن عن التجربة التي قمت بها مع اولادهن. سألتني إحداهن: " يا همتاه!!!! عتكتبي قصة؟"  اجبتها :-" احتمال ، في ماذا يتسبب لك بالهم ان اكتب قصة؟ انا لا اذكر اسماء ، لم اذكر في عمري كله اسم واحد. نرى كلنا اليمن تسلب و تنهب و تحتضر و لا نستطيع لها لا حماية و لا علاجا فلماذا لا نتكلم عن اوجاعها كأضعف الايمان كقصة مروية ؟ ما الغلط في ذلك؟ لماذا تقولين يا همتاه؟" لم تجبني و لو انها سمعتني لكنني كنت اعرف ردها سلفا. قد قالت لي رأيها مرارا. قالت لي كتابة تتسبب لكاتبها بالضرر ليست كتابة و انما غباء. وجهة نظرها لا اتفق معها فيها.  اسهبت صديقتي الثانية تنتقد هذا الجيل من الاطفال انهم لا يحمدون و لا يشكرون و لا يرضون و انهم يستأهلوا ما هم فيه ، انتقدت انهم لا يتفكرون في الاوضاع المأساوية لأطفال سورية و العراق ، و يستمروا في التذمر و الضيق. دافعت انا عنهم مذكرة انهم اطفال. قلت لصديقتي ان شتاء هذه السنة هو الاشد قساوة و ضراوة ليس لأن درجة الحرارة تصل الصفر و ربما دونها لكن لأننا هذه السنة لا نفتقر للدفء فقط ، بل نحن نفتقر للأمان حين ننام متيقنين ان صاروخ قد يدك منزلنا بالغلط و نحن نيام ، فلا نصحو . عدم الأمان يبرد. نحن جوعى و الجوع يبرد. نحن   غير مطمئنين لغدنا و لمستقبلنا و الضياع يبرد. نحن حزانى على احوالنا و حال اليمن و الحزن يبرد. نحن لا نحتاج للصوف لندفأ في هذا العام..... لكننا نحتاج لمعجزة و عهد المعجزات انتهى. فكيف بالله نفعل؟ بدأت صديقتي تعيد موبايلها الى حقيبتها قايلة لي بغضب انها لم تخرج لكي انكد عليها! اعتذرت لها بصدق لأن كلنا لدينا ما يكفينا من الكآبة و طلبت منها فقط ان احكي لها كيف كانت " لماذا" و " لأن" ايام طفولتي انا. لعلها تضحك. حكيت لهن انني كنت العبها مع اختي الاكبر. وافقت صديقتيَ ان يسمعا وطلبن السرعة و فتحت احداهن الراديو على اغنية لحمود السمه " كلام مثل الحكاية و الحكاية كلام."  اغمضت عيني قبل البدء و شبهت نفسي بمن يستحضر ارواح في افلام الرعب الأمريكية. بدأت اقرأ لهن من الاسئلة التي اذكرها مع اجابتها. كنت اسمع ضحكهن احيانا فأبتسم مغمضة العينين.
*لماذا عروستي الجديدة سميتها نتاشا؟          لأن شمس طابور الصباح حامية ( كنا في القاهرة تلك السنة)
*لماذا ماما احلى ام؟    لأني طلعت الأولة في الصف                                                                  
*لماذا القطة ولدت نواني كثير مغمضات؟        لأن الزلابيا يوم الجمعة يجنن                                      
* لماذا عنسافر الاسكندرية في اجازة نص السنة؟    لأن بابا بيهرينا اغاني فيروز فوق السيارة                 
*لماذا جدول الضرب صعب قوي؟  لأن ماما خلعت لي سنة                                                            
اكملت استحضار الذكريات وفتحت عيني.  كانت عيني فعلا تلمع. انا لست حزينة لأنني كبرت فالَكبر ُسنة فلا الطفل يظل طفلا و شباب الشاب مخلد ، لكنني حزينة على اطفال هذا الجيل ، فقدهم اكبر من التعويض واحزن من النسيان.
يا ساسة بلادنا ، يا من تتفاوضون و بيدكم امننا ومحاربتنا. ارحموا لعلكم ُترحمون. فمن لا يرحم لن ُيرحم. هذا الشعب بأطفاله ، صبيانه، شبابه، نساءه، رجاله، كبار سنه و كهولته لا ذنب لهم البتة بحربكم. انتم تتحاربون من اجل كرسي و سلطة ،  يكفي تكذبون عن تجفيف الفساد ، يكفي تهتفون الملاحم عن الجرعة... يكفينا كذبة بعد كذبة و ُخدعة تعقبها ُخدعة.  بأي منطق و اليمن كل مدنه يمنية تدافعون عن مدينة و تدكون الثانية، أي قمار هذا ، كيف تحكمون و الأمر ُقرعة؟!  يكفينا محن ، يكفينا وصلنا الى قاع محيط الفتن. لا تتوهموا لأنكم الأقوى انكم باقون ، فإن لله في المصحف الشريف  قصص، عِبر و عشرات القصص عن قوم بلغوا القمم ثم لم يبق لهم أثر. عودوا الى الله مخافة ، و لسوف ُيدفعكم الثمن
اما نحن فإذا اعاشنا الله ، لسوف نحكي عنكم قصص لأحفادنا عن " قوم" ارخصوا اليمن.                                             


أحدث أقدم

نموذج الاتصال