يا بختك يا ريو...






من باب قول كلمة الحق ، فإننا - سكان صنعاء –  كنا قد ارتحنا من اصوات القصف و دوي الانفجارات ، منظر الدخان المتصاعد و ارتجاج جدران بيوتنا و قفزة القلب من مكانه الى الأرض، ارتحنا من كل هذا لأشهر عدة. لا اذكر كم شهر بالضبط ، ربما اربعة و قد تكون خمسة و احتمال ان تكون فترة الهدوء قد تجاوزت الستة أشهر ، ففي واقع الأمر بعد الحرب اصيب معظم الشعب اليمنى بدرجات متفاوتة من الزهايمر. وكما يبدو لنا التحالف ايضا اصيب بالزهايمر مثل ملكه لأنه بكل غرابة يقصف ما قد قصفه سابقا. و يخسر الملايين على قصف تراب في المعسكرات و الجبال.

كنا نعلم في فترة الهدوء الماضية ان الحرب لم تنتهي بعد رسميا لكننا كنا نجزم انها منتهية. اننا متفائلون. كنا قويي الايمان بأن الله سيرحمنا لأنا عباده و هو يرانا في كل حين. يشهد بعينه التي لا تنام كم نحن مساكين ! يدري كم صبرنا على مر تاريخنا على الظالمين. فلابد انه سبحانه و تعالى منصفنا و لو بعد حين. كنا نعلم ان القصف توقف في صنعاء العاصمة لكنه لم يتوقف لا في تعز و لا إب و لا فرضة نهم. لكن لا أبالغ اذا ذكرت ان منا من كان مستعد – وانا اولهم- للحلف غيبا ان الحرب منتهية عما قريب. الحرب منتهية ، اما متى و كيف و كل التفاصيل فلا تشكل عندنا – نحن الشعب - أي قضية. ان يحيا الانسان و فوق رأسه طائرات حربية ضجة محركاتها مخيفة ، فكرة غير سهلة الاستساغة و غير قابلة للتأقلم معها لفترة طويلة.
عندما عاد القصف في اغسطس 2016 شعر كثيرون ان " السعودية" طالب فاشل. رسب في السنة الدراسية و يحاول الان في " الملحق" أن ينجح. و قد ينجح أي طالب في الملحق اذا اجتهد لكن حكومة السعودية طالب لا يمت للعلم بصلة.  طالب زير نساء و عربيد! فكيف بالله يجتاز امتحان اللغة العربية ، الفيزياء ، الجغرافيا او حتى علم التوحيد و هو زير نساء و عربيد؟!  عندما عاد القصف في شهر اغسطس عاود الخوف و الذعر مهاجمة العديد. عن نفسي لم يكن خوف فقد اعتدنا القصف ، لكنه كان حزن صامت دفين. الى متى يضيق علينا عيشنا هؤلاء الهجين؟ احسست نفسي ضعيفة ، مكسورة. لست خائفة لكنني غاضبة و في ذات الوقت بلا أي حول و لا قوة.
قررت لأخرج من توتر ترقب قصف الطائرات فوق رؤوسنا ان اجلس امام التلفاز لأتابع فعاليات الاولمبياد الذي يقام هذا العام في ريو دي جانيرو في البرازيل. احضرت معي صحن فيه جبن ابيض ، خبز و زيتون اخضر. امسكت بكأس شاي أحمر. ارتشف الشاي ، اتناول عشائي  و انظر الى الأعلى. الى سقف بيتي و انصت الى هدير الطائرة الحربية.  تشق رحم سمانا البكر،الطاهرة طائرة. ضجتها غبية جائرة. ماذا تريد منا السعودية؟ لماذا لا تستعين بخريطة اذا كانت ضائعة ، او لتذهب الى قارئة كف اذا كانت حائرة. ستفتح قارئة الكف كفها و ستقول لها:
" بصرت و نجمت كثيراُ
لكن صنعاء يا ولدي نائمة في قصر مرصود
من يدخل حجرتها
من يدنو من سور حديقتها
من حاول فك ضفائرها
يا ولدي مفقود مفقود مفقود
و تجوب بحارا و بحارا
و سيكبر حزنك حتى يصبح اشجاراً
و سترجع يوما يا ولدي مهزوما ، مكسور الوجدان
و ستعرف بعد رحيل العمر ، انك كنت تطارد خيط دخان."
فجأة و انا استرجع كلمات الشاعر نزار قباني التي غناها العندليب الراحل عبد الحليم حافظ هز نوافد و جدران منزلي دوي انفجار قوي. اهتز كأس الشاي الأحمر حتى تدفق على اصابعي ، و ذقني. تساقط الجبن الأبيض على حجري و فوق الأرض تدحرج الزيتون اخضر. الشاي في فمي لا استطعت ان ابصقه و لا استطعت ان ابلع. ما هكذا يتناول الناس العشاء! هذه مش عيشة يا ناس ، اريد ان اؤجل حياتي لأعيشها بعد الحرب ، فأين رحم أمي لأرجع؟ وضعت المتبقي من الشاي على الطاولة. و التقطت الجبن و الزيتون من الأرض و اعدتهم الى الصحن. افزعتني زيتونة عابسة. بوجهها المكفهر عبرت عن مشاعري. لك حق تعبسي ، ما هكذا يعيش البشر و ما هكذا ُيعامل الزيتون! حمدت الله انني لا أزال حية. يعلم الله من استشهد من اليمنيين اثناء دوي الانفجار الأخير.
التلفزيون يبث فعالية رياضية خاصة بالنساء  في ريو دي جانيرو وهي عبارة عن رماية و قنص. مكتوب    على الشاشة women skeet
جلست القرفصاء على الكنبة لأتابع هؤلاء النسوة اللواتي لا يشبهن و لو قليلا النسوة في اليمن. هؤلاء النساء يتبارين على قنص بالون يتم ارساله عبر السماء من الجهة الشمال للجهة اليمين. فإذا افلحت المتبارية في قنصه يتفجر محدثا دخانا لونه "فوشيا". المتباريات يضعن على اعينهن نظارات لاصقة – مثل نظارات اطباء الاسنان -  وملونة بالوردي و الاصفر. كل السيدات المتباريات يربطن شعورهن ذيل حصان أشقر و قصير. نجحت متبارية كورية في قنص البالون اثناء عبوره في السماء فتفجر و احدث دخانا فوشيا. صفق لها الحضور كأنما هي نجحت في اجتياز مهمة شاقة. طبعا لم تسمع المتبارية التصفيق بسبب السدادة لكنها رأته بعينيها. المتباريات يرتدين ملابس رياضية ناصعة البياض. يحملن بنادقهن فوق اكتافهن. شتان بينهن و بين رجال اليمن! المتبارية في ريو تستهدف تفجير بالون و الرجل في اليمن يستهدف الدفاع عن وطن.
فجأة سمعت دوي ضخم! احسست اذني تطن! استجمعت قواي و تركيزي. لاحظت ان المتباريات يضعن سدادة ُمحكمة على اذانهن بالرغم ان صوت طلقة بندقية الصيد صوت لا ُيذكر. ضحكت و انا في ذات الوقت ادمع. تحسرت على اذاننا كم سمعت و تسمع ! اذان جنودنا كم سمعت و تسمع. لا لديهم سدادة اذن و لا حتى بوتي و كثيرا ما يكونوا حفاة بلا حتى صندل!  هؤلاء المتباريات الفوشيا ما اسعدهن! بالقبعات الشمسية و النظارات الشمسية الملونة. بالملابس البيضاء ، بذيل الحصان. بكت احداهن لأنها حاولت ان تقتنص البالون ثلاث مرات و لم تنجح. تعالي يا عزيزتي شوفي حال النسوة في اليمن. لا يبكين حتى على الميت اذا مات شهيد. المتباريات في ريو يرتدين الشورتات القصيرة و التي شرتات العارية و نحن بالحجابات و البنطلونات والأثواب  الطويلة ، خوفا من ان ننام فُنقصف! المتبارية في ريو تقتنص بالون طائر فتحدث في السماء دخان فوشيا ويصفق لها المتفرجين. اما نحن فتقصفنا طائرات حربية و ُتحدث غبار و نار ودم و يعطينا العالم ظهره.
يا بختك يا ريو يا بختك
ذهبت لأحضر قطن اسد به اذني لكي استطيع متابعة الاولمبياد دون فجائع . احضرت نظارة شمسية لكي اتقمص دور المتفرجة و وضعت على رأسي قبعة شمسية. نويت ان اصفق. لا اريد ان يذكرني احد بالحرب ولو لساعة. سئمنا واقعنا المر ، واقع يصرخ في وجوهنا اننا ُنقصف! سأحضر الاولمبياد في ريو في بيتي في صنعاء. جلست امام التلفاز و ما ان وضعت النظارة الشمسية حتى ساد الظلام ، فبسبب المطر ، تنتهي الطاقة مبكرا من الالواح الشمسية. انه نكد صنعاء المعتاد! لست ادري لماذا في الظلام و بالنظارة الشمسية و القبعة بكيت بصمت!
بدأت اسمع في تلك اللحظة رعد و ارى برق يضيء ظلام البيت. ثم هطل مطر غزير. هيا اتحداكم تقصفونا يا حمير! سيقصفكم برقنا فعودوا من حيث جئتم يا بعير!
ولعنا المولد الكهربائي و تابعت الاولمبياد في ريودي جانيرو. يا بختك يا ريو يا بختك
برغم الفارق المريع بين ما يحصل على ارضك
و بين ما يحصل على ارضنا
لكن بيننا – صدقيني – قاسم مشترك. اتعرفين ما هو ؟
العالم كله يتفرج عليكِ يا ريو
و العالم كذلك يتفرج علينا يا ريو!
نتمنى لكم طيب المشاهدة. و لك الله يا يمن!
أحدث أقدم

نموذج الاتصال