مما لا شك فيه ان نزوح ثمانية أشهر - بالنسبة
لي - أو اقل او اكثر من ذلك بالنسبة للأخرين، عقب حرب لم تحط رحالها حتى اللحظة هو
نزوح مثقل باليتم ، نتكور فيه كالكرة تتناوب قذفنا الصروف بين راحتي الحنين
والإحباط . نجر في كل لحظة منه شوالات من الصبر. جبال من الحزن تحط فوق ظهورنا تكاد
تحدب بظهر الشباب ، و اشتياق ملتاع يشبه الاشتياق لميت نذكره فيشيب شعر الشباب . فعلا
اليمن حتى بعد ان عدت اليها ليست تلك التي اعرف. منظر عطان المنكوب رحيم ، منظر
الناس المقصوفين في الشوارع رحيم ، نظراتهم الزائغة رحيمة ، افواههم الفاغرة
رحيمة، لكن قدر الله و ما شاء فعل.
القاهرة التي نزحت اليها ، مدينة مولدي ، درست
فيها في مرحلة الابتدائية ثم غادرناها ، لنعود اليها صيفا ، لقضاء اجازة. مصر عندي
زورق من ذكرى رائعة ، فيها الضحك ، الفسح ، الأكل ، السينما ،الملاهي ، التسوق و أكل
الفول سوداني.... فجأة اصبح مذاق مصر في روحي احمض من الخل . لأنني هذه المرة
ُاساق اليها هروبا من حرب زلزلت كيان اليمن و عصفت بكياني . كان " طعم
الزيارة " تلك المرة مر مرارة مخيفة. لازلت - بعد عودتي - استرجعه في طرف
لساني. مصر ، احبها و لا اشعر فيها بغربة
ابداً. المصريين يعيشون على سجيتهم ، انا اتوافق معهم لأنني مثلهم احيا على سجيتي.
ما علينا من حكومتهم ، انا اتكلم عن الناس ، تماما مثلما ما علينا من حكومتنا ،
اتكلم عن الناس العاديين مثلي ومثلِك و مثلَك لا عن الحكام الانذال. كنا فين ما رحنا نسمع (
من اليمن؟ اجدع ناس) ( من اليمن؟ منورينا يا باشا) ( من اليمن؟ حبايبنا والله) (
من اليمن؟ سلام يا دفعة.) و عندما تستفسر عن معنى " دفعة" يشرح لك و هو
يعد بأصابعه :-" كانوا العراقيين الدفعة الأولانية ، وبعدين جم الليبيين و
هما الدفعة التانية ، السوريين الدفعة
التالتة ، و انتوا اليمنيين بئة الدفعة الرابعة." تكتشف انه يقصد "
ُدفع" الهاربين الى مصر من حروب- كفرت بالله - في بلدانهم. حروب جعلت الأخ يرصص
اخوه بدم بارد كأنما ضرب بالرصاص قصعة. تهز رأسك بحزن ، يفرزر اللسان فتكتفي بتبسم
مقدار ما يسمح به ثلج النزوح و صقيع لياليه الجليدية ، ثم يخاف المصري لأنه يحس بالأخر ان يكون جرحك
دون ان يقصد فيقول :-" اما لو حصل في المحروسة حاجة – لا قدر الله - دي تبئى مصيبة رخمة ، حكم دي مؤامرة جامدة اوي،
حنروح فين بئة احنا و الامم دي كلها ؟ ربك يستر على ام الدنيا." هكذا كانت
النظرة الينا نحن اليمنيين في القاهرة ، الاردن ، تركيا ،ماليزيا ، السودان و في
اي مكان يحط المرء رحاله فرارا من حرب قد تقتنص عمره في طرفة عين.
اريد ان اسأل اولاد الحرام و يجاوبوني بصدق :
ماذا استفاد اليمن منكم يا - يا قلة - عندما
شردتم الشعب وهم مائة بالمائة اولاد حلال و هم غالبية و دمرتم اليمن ؟ ماذا استفاد
؟! اسكه قولوا لي فائدة واحدة ؟ طبعا باستثناء جيوبكم. تعبئة جيوبكم و حث الشباب على الشهادة. بس انتوا تستشهدوا لاااا
، احنا اليمن بحاجتنا ، احنا القيادة ؟! قمة نشواكم مجزرة او حمام دم او حد ادنى
حرب ابادة. لغوكم عن مكافحة الفساد قد اذهل الفساد نفسه ، بلدتوا الفساد يا جماعة.
مسرع ثريتوا ، مسرع عمرتوا بنايات ، مسرع سمنتوا ، مسرع صرتم في الريادة ؟! لا تصدق يا
مواطن اليمن محاربة فساد ، و لا تصدق ولاء للوطن ، و اذا صدقت فأنت تحيا و ستموت في
قمة البلادة! اللعبة كلها فلوس تدخل جيوب ، لصوص يا اخي متناوبين علينا و يقول
عنهم السذج الغلابة قالت – أمرت – وجهت – قررت الأيش؟ القيادة، قلك قيادة!!! ما
علينا ، قلت عن النزوح انه نسيج خيوطه اشواق
،مشغول بالجروح. لما هربنا؟ اردنا ان نهرب من الحرب ، لم نعرف اين نجي بأرواحنا و
اين نروح؟ منا من هرب ليأمن ، منا من هرب لأسباب صحية و طبية ، منا من هرب لخوف
الصغار او لتدريسهم ، و منا من هرب لينام ، منا من هرب ليأكل ، يشرب ، يلبس و
يتنزه. لكن اسم الواحد منا " نازح" مهما كثر ماله ، مهما وفر له منصبه
الماضي من جاه او نفوذ يظل "نازح" . النازح مسكين ، تجرحه الكلمة ،
يتنهد من اخبار بلده ، يمشي فوق الطرقات اوصال مقطعة بلا سكين.
سأروي هنا قصص معظمها خيال. قد يكون فيها
نقطة حقيقية واقعية من الحروف ،و تأليف كلها سائر حروف الابجدية. عن النساء
اليمنيات ، اللواتي يرهقن انفسهن للمحافظة على " برستيج " سابق ، او لسد
نقص قام النزوح باستحداثه فيهن . هؤلاء المسكينات اللواتي يتوهمن انهن طواويس
يمشين بخيلاء و غرور. يتفاخرن و يتكبرن على خلق الله وهن نازحات. سأروي قصص لم
تحدث ،بطلات قصصي و ولدتهن في رحم مخيلتي ، لا أقصد احد ، و لا واحدة معنية. انها
فقط قصص لمحاربة ظاهرة " الزنط" في مجتمعنا النسائي تحديدا. ومثلما نقول
في اليمن "سارق و مضارب" ، فانا اقول " نازح و زناط"! النازح
ينزح " بأدب" ، يرتب اموره على الحرص و الكفاف و يتوقع ان الأسوأ و
الأصعب قادم. انا هنا لست بصدد الدعوة للذل ،حاشى و كلا ، احنا صحيح نازحين لكن لم
نقترف - و رب العباد شاهد- اي ذنب. لكن التفاخر في هكذا ظروف لا يجوز و غير لائق.
لا نتفاخر ، لا نستعرض ، لا نفشر و لا نزنط ، لا نمشي بخيلاء الطواويس لأن
الطواويس لا تنزح. و الا لما كانت فردت ذيلها بكل ذلك الخيلاء و الجمال و البهاء.
النازح ينزح بأدب ،و لا نرهق انفسنا للحفاظ على مظاهر فارغة لا تجدي ، و ليعلم النازح
انه عاري في غابة من رياح ، قد تستره الزهور و الأشجار و قد ينقض عليه ذئب من
الذئاب فلا داعي للغرور و التفاخر ابدا ابدا. الله يأمن البلاد و يسلم العباد .
الأن سأبدأ بسرد النماذج التي " تخيلتها" في نزوحي ،و سأكتب في كل حلقة
تجربة. شاكرة القراءة. داعية صديقاتي في القاهرة الا يعتقدن ان القصص عنهن ، مطلقا
بل هي عني انا ، انا الفشارة !J
الطاووس الأول ، مجمع التحرير
في القاهرة يحتاج اليمنيين لاستخراج "
اقامة" لكي يستطيعون الاقامة بشكل قانوني و لكي يلتحق ابنائهم بالمدارس. هذه الاقامة مفروضة على العرب جميعا
وغير العرب. الاجراءات لا تتطلب اي مبالغ مالية ُتذكر وكل معضلتها هي ان اجراءات
المعاملة لها و الحصول عليها تتم داخل مجمع التحرير حيث صور الفنان عادل امام
فيلمه " الارهاب و الكباب". مبنى لا يوجد فيه و لو مساحة صغيرة غير
مزدحمة. وعندما اقول مزدحمة فانا لا اعني زحمة عادية ، بل زحمة تشبه زحام الحج . زحمة
تجعل التنفس متعذرا. كان زوجي قد عامل لهذه الاقامة و قرر بعد الانتهاء من
اجراءاتها الصعبة ان يعود الى صنعاء ، و اذهب انا فقط لاستلام الاقامة من اجل
تسجيل ابننا في المدرسة.( طبعا هذا قبل ان نقرر العودة) سألت شخص هناك من اي نافذة
استلمها فقال لي من الدور الاول شباك نمرة 48. صعدت لأجد الدور الأول هذا ممرات
تشبه المتاهة . كان جموع الناس يتدافعون فوجدت نفسي اذهب دفعا لممر لا اريد الذهاب
اليه. احاول ان اتوقف لأعود ادراجي فأجد انني اتراجع للخلف لأن الناس تمشي الى
الأمام. بعد جهد و سؤال وجدت النافذة 48 ، امامها طابورين واحد للنساء و أخر
للرجال. وقفت خلف سيدة سورية خجولة يكاد صوتها لا يبين ، ثواني و وقفت خلفي امرأة
ليبية طويلة كالنخلة. سألت انا السورية :-" الطابور ماله ما بيمشيش ؟"
رأيت شفتيها تتحرك مما يدل انها ردت غير انني لم اتلق اي اجابة من شدة انخفاض
صوتها. بدأت الوح بالجوازات في يدي من شدة الحر. سألت الليبية خلفي :-"
الطابور لسة طويل امامنا و الا قليل؟" اجابتني بوضوح انه لا يزال طويلا و
" كنو ما يتحركش" سرعان ما لاحظت انني في موقف حرج كونني قصيرة، حيث كان
ظهر السيدة السورية امام انفي و اذا التفت للخلف وجدت امامي اعلى بطن الليبية. قلت
للأخت الليبية :- " خلاص انتي - ما شاء الله - تكوني برج المراقبة. توافيني
اول بأول كم باقي و يجي دورنا" هزت رأسها ضاحكة ،متمتمه :- " باهي ."
كان طابور الرجال محاذي لنا ، و ما ان ينتهي احد الرجال من اخذ موعد لأخذ موعد
لاستلام موعد لأخذ موعد للحصول على الاقامة ،كان عليه ان يقطع طابور النساء لكي
يذهب لشراء ورق دمغة ثم يعود لنفس النافذة. و طبعا من فين كانوا يعبروا؟ من امام
العبدة لله كونني كنت الأقصر في الحارة ، كان هناك فراغ اعلى رأسي يفصل بين المرأة
السورية و المراءة الليبية فيعتقدون انهم سيمرون من ثغرة ثم يتفاجئون بي واقفة، فاتنحى
جانبا لحين اجتيازهم و ثم اسارع بالعودة
الى مكاني. كنت كلما وقفت على جانب الطابور لكي يعبر رجل ، تأتي الجموع فترجع بي
القهقري وكانت الليبية – جزاها الله خيرا – تقوم بجذبي و مساعدتي في العودة الى مكاني.
لم يراودني البكاء حزنا لكوني قصيرة مثل ذلك اليوم. ففي اليمن غالبية المتحركين
قصيري القامة لا يستشعر المرء فداحة القصر الا في مجمع التحرير. لم اكن قصيرة
فحسب، بل قصيرة و ارتدي بوتي رياضي من حق مركز المدينة في صنعاء .كنت اتأمل البوتي
بحزن ، انا و انت من اليمن ، هل كنت تتخيل ان نقف هكذا لأخذ اقامة ؟ يا اللهي ،
انتقم لنا يا الله ممن كانوا السبب . المهم ساعتين و نحن في ذلك التجاذب و التدافع
والاخت الليبية تشدني وتتأكد من وقوفي في مكاني السليم ، تبلغني بصوتها القوي كم
امرأة امامنا لنصل الى النافذة. طبعا كنت من شدة الزحمة حقيبة يدي قد راحت خلف
ظهري ولم تكن على جانبي ، و حجابي قد ارتخى و لم استطع رفع ذراعاي لإعادة لف
الحجاب حول رأسي. في تلك اللحظة المنيلة بنيلة على قولة المصريين سمعت بصوت مرتفع
:- " سلوى؟ مش معقول؟" تلفت الى الأعلى في كل الجهات فلم ارى الا وجوه
نساء غاضبة من الطابور. نظرت امامي لأجد – و يا للسعادة – قصيرة اخرى. كانت يمنية
اعرفها من اليمن من حفلات الاعراس معرفة سطحية حتى انني لم اتذكر اسمها. اقتربت
تريد ان تسلم علي كما تسلم النساء على النساء في اليمن. ارادت وضع خدها على خدي و
انا كانت ظروفي صعبة ، امامي ظهر السورية و خلفي بطن الليبية ، فرأيتها تبوس عوضا
عن خدي بطن امرأة لا اعرف من هي و قبلت انا كوع سيدة تحتضن صغيرها. كان موقف صعب و
ما كان يجب الأخذ بالأحضان اصلا. قالت لي :- " كيفك ؟ الله لوتشوفي بعدما
كتبتي ذيك القصة حقك اللي عن العرس في
القاهرة ، كيف البنات نفلونك في الوتس نفل." اجبتها :- " طز، خليهم
ينفلوا." ثم لمحتها تتأمل حجابي و شعري الذي حاولت بيدها ارجاعه تحت الحجاب و
حقيبتي التي اصيبت بخلل موضعي. ثم همست لي :-" قدامك بس تلاتة حريم و توصلي
التاقة ." حمدت الله . ثم وشوشتني :- "هيا ايش رأيك تكشحي جوازاتي انا و
خواتي مع حقكم الجوازات ؟" اشرت بعيني الى برج المراقبة خلفي وهمست لها :-
" ما ينفعش ، في ابراج ما عتسكتش. سيري طوبري في اخر الطابور احسن." بدت كأنما استفظعت ردي فإذا بها تقلب 180درجة.
قالت لي :- " انا الصراحة ماحبش اوقف الوقفة دي ، بس اجيب لواحد مصري فلوس و
يجي هو يتمم المعاملة و يوقف الوقفة دي." نطقت كلمة " الوقفة دي"
بطريقة مهينة. انا نازحة وبعيدة من اليمن ومن بيتي ، لست ادري كيف غالبت دموعي .
تعايرني " بالوقفة دي" و هي مثلي اتت لتعامل على اقامة. سألتها :-
" كان مالش جيتي اليوم بنفسش ؟" قالت لي بعنطزة :- " لاااااا ،دي
الوقفة مش لنا ، الصراحة. انا بس اجيت مع صاحيبتي . اندكي واقفة آخر الطابور. دي
الوقفة مش عشانك و لا عشاني ، مالك انتي؟ اعطي واحد فلوس و خليه هو يجي يكاحش و
يداهف. نحنا مش والفين على ذي البهدلة." ارتفعت درجة حرارتي ، و كنت في امس
الحاجة لقرص بنادول. كان كلامها ثقيل العيار. قلت لها :- " طيب و انتي ليش
جايبة معش جوازتكم ؟ مش إلا بس جاية مع صاحبتش؟ بعدا ما جيتي تجي معاها الا في
المجمع ؟ الناس يخرجوا كوفي شوب و الا مركب عالنيل مش المجمع!" حاولت ان اقول
ذلك " بزنط " بس لم افلح ببساطة لان ليس من طبيعتي التعالي و
التكبر. تمنيت لو انني طويلة كي لا اراها
لأنني اختنقت منها. رأيت النافذة فجهزت جوازاتنا. وصلت لدوري و اعطيت الضابط
الجوازات و هي تحاول دفع جوازاتها من ذات النافذة فقالت لها الليبية :- "
ارجعي لوراء لوسمحتي يا مدام.ما ينفعش هذا الكلام." رأيتها تعود الى حيث تقف
صديقتها. فصاحت عليها النساء الواقفات خلف صديقتها وطلبين منها ان تقف آخر
الطابور. اشفقت عليها و يشهد الله من " الوقفة دي". استلمت اقامتي التي
اتضح انها موعد لاستلام الاقامة فشعرت باليأس من هذه الاقامة. جاء ضابط يقول
الدوام حيخلص كمان ساعة ، اللي لسة بعيد يروح و يجي تاني بكرة. رايتها تخرج عن
الطابور هي و ثلاث قبلها و تهبط درج المجمع. كانت حزينة وكنت حزينة. وجدتني اهبط
الدرج و انا اتمتم " يخرب بيتكو يا ولاد الكلب."