كانت اعدادنا- نحن النازحين و النازحات - في القاهرة تتزايد. القاهرة تفرض على اليمنيين تأشيرة
دخول و معاملة اقامة، و لكنها اقل تكلفة من النزوح الى الأردن . الاردن دخولها بلا
تأشيرة و لكنها باهظة في السكن و نفقات الحياة عامة. اعداد اليمنيين فيها اكثر من
القاهرة بسبب عدم فرض الاردن على اليمنيين
أي فيزا . لو جمعنا اعداد النازحين اليمنيين في كل الدول التي هربوا اليها ( مصر،
الاردن ، ماليزيا، السودان ، السعودية، تركيا ، جيبوتي ) من هول حرب لم ُيفهمهم احد – لان اساسا لا يوجد احد فاهم -
لما قامت اصلا ، لربما قارب عددهم نصف عدد
الباقون الصامدون الأبطال في اليمن.
النازحين يقيمون في القاهرة ، بعضهم ممن تتوفر لديهم المادة و عقل نبيه و مخطط
ناجح و يتمتع بُبعد نظر ، بمجرد وصوله يغسل يده و نشفها من اليمن برمته ، يصل فيشترى
سكن و أثثه ، سجل اولاده بالمدارس ، اشترى او استأجر سيارة ،اقام عرس لابنه او
بنته، تزوج هو نفسه - بمصرية طبعا -
إيذانا بافتتاح دكان لحياة جديدة شكلا و مضمونا . تأقلم سريعا ، رتب اموره
بحرفية تجعلك تتشكك انه كان عنده علم مسبق بقيام هذه الحرب. هؤلاء الناس كانت
الحرب عيدهم. اما غالبية الواصلين – و من ضمنهم انا - فكانوا يقضون فترة عقب
وصولهم القاهرة محدقي العيون في حالة ذهول و غير تصديق لما جرى. في منتصف الليل ،
كنت افزع من نومي لأتلفت حولي " غرفة من هذه التي انام فيها؟ والجدران هذه الغريبة
في أي بلد ، الصبح ستشرق شمس هي شمس لكنها ليست كالشمس؟"
في القاهرة الأحياء التي يتركز فيها اليمنيين تتباين من منطقة الدقي ،
المهندسين ، المنيل ،المعادي ، الهرم ، الرحاب، مدينتي ،6 اكتوبر ، او التجمع
الخامس حيث كنت انا . كنا نختار المنطقة وفقا لاحتياجاتنا ـ سواء كانت المدرسة او
القرب من الوسط اليمني ، و احيانا البعد عن الوسط اليمني، او لرخص السكن و كل
مستلزمات الحياة. كان اختيار السكن يخضع لاعتبارات عديدة و كلها منطقية جدا. مثلا
من يختار السكن قريب من مدرسة اولاده يتصرف بحكمة لأن مدارس الابناء ومواصلة تعليم
الصغار لهو جوهر و " فائدة" النزوح و يجب ان تكون المدرسة في المتناول لحل أي مشكلة
قد تطرأ . اما الذي يختار سكنه قريبا من مجموعة من النازحين اليمنيين لاحتياجه
الماس للتواصل باليمن و اهله و لا يريد ان
يشعر بالغربة و الوحدة ، فدافعه قوي ايضا لأن الانسان اليمني بطبيعته لا غنى له عن
ناس بلده. اما ذاك الذي يختار سكنه بعيد
من اليمنيين ايضا لحكمة لأن اليمنيين كثيري التعليق، التفاخر ،الانتقاد ، المراقبة
، القيل و القال و البعد عنهم من اسباب الاستقرار والهدوء النفسي. هناك من
يختار المنطقة الأرخص سعرا و لو تدنى
مستوى النظافة و ارتفعت درجة التلوث خاصة عند النيل حيث الزحام و عوادم السيارات
تشكل طبقة مرئية للعين تفصل بين طبقات الافق فيها فرخص الحياة يؤهل النازح لنزوح اطول و اكثر
ديمومة و غير شاق ماليا. كما اسلفت تتعدد الاسباب في اختيار " منطقة"
السكن في مصر وجميعها فيها منطق.
من وجهة نظري ، لا يوجد نزوح راقي و نزوح غير راقي ،كله زفت نزوح.
جميعنا ترك عشه ، و عش الطير هو سكينته، كيانه ، نومه الهنيء و ثباته. لكن بسبب التمسك
بالمظاهر المتأصل ، و المتجذر في الشعب اليمني – للأسف – سرعان ما اصبح هناك درجات
في النزوح وفقا لأيش؟ وفقا لأين تسكن؟ فإذا كانت المنطقة مزدحمة و فيها اكشاك و
بائعين على عربات و الخيل او الحمير تجرها ، او بائعين في الشارع دون محلات فهذه
منطقة شعبية و هي تدل على ان الاختيار رخيص وزبالة. اما اذا كانت المنطقة كلها لا
يوجد فيها الا سيارات تتحرك و لا وجود لمارة
في الشارع يمشون سيرا على الاقدام لأن السير في
الثقافة اليمنية المتخلفة من دلائل الفقر
! كذلك اذا كان فيه بالمنطقة شركة امنية متخصصة تتولى الحراسة و
اعطاء بطائق للسكان وتفتش الغرباء بالكلاب و الأجهزة و تحسس الواحد انه داخل
غوانتانمو و تكون المنطقة اسعارها اسطورية ، فما هو بـ8 جنية في مصر تجده بـ22
جنية في هذه المنطقة. باختصار كل ما فيها
غالي نار فيها زهور منسقة و مساحات عشبية، و يا حبذا نوافير و اضواء ملونة لأن
الواحد نفسيته تعبانة من الحرب! الشوارع نظيفة و لا تدخل سيارات الاجرة الا بعد
تفتيش و تمحيص و يوجد للمنطقة شركة لسيارات "اجرة" محددة اذن هذه منطقة تماااام للناس التي تقدس المظاهر و
تفتديها بكل ما تملك ، شديدة الرقي !
لاحظت فيما لاحظت ان السرقة يتعرض لها الجميع ، المناطق المحمية
بحراسة مشددة و من لساكنيها بطائق مرور و المناطق التي بلا حماية أمنية ويأمن
ساكنيها ابواب شققهم بثلاثة انواع من الاقفال و السلاسل، و لديهم بواب يغلق باب
العمارة ليلا. الجميع معرض للسرقة و قد
حدثت حوادث سرقة و قتل يعقبه سرقة في المناطق الراقية و غير الراقية. اساسا لاجينا
للصدق – الحافظ من؟ الحافظ الله:) اجتمعنا في احد الأيام بعد وصول اخت يمنية و هي
وافدة جديدة في شقة احدى الاخوات لنرحب بها ، فدار نقاش مطول حول اهمية اختيار المنطقة
المناسبة للسكن ، فكانت كل واحدة تدلي بدلوها في الموضوع. لاحظنا ان اغرب الكلام
كان يصدر من الاخت الوافدة هذه. كان منطقها غريب...كان غريب جدا ،ببساطة لأن لا
منطق فيه. بدأت هي الكلام قائلة:
:- " قالوا لنا نسكن في منطقة المنيل بس مالاااان يمنيين. بعدا
مكان شئبي (شعبي) ، البياع بالعربية و الحمار و يصيح " اووووطااا"
مادريت انهي تمات ( طماط) الا بعدما قالي زوجي. انا ما تحملش اعيش في الوساخة حق
المنيل. الصدق احنا ناس قوي نظاف ."
صمت الجميع مستشعرين شعور اكياس القمامة ، كما تحرجت وعدلن من جلوسهن
في حركة دفاع لا إرادية عن النفس - حوالي ثلاث من الساكنات في وساخة المنيل كما
وصفتها. كانت الوافدة تعلم ان المنيل من المناطق المزدحمة باليمنيين و مع ذلك لم
تراعي شعور احد. هي تلمع نفسها الصدئة و الى الجحيم الآخرين. حرب مش وقت مراعاة
مشاعر الأخر! اجابتها واحدة من المقيمات في المنيل :-" ما دخلنا بوساخة
المنيل؟ هيذاك اليمن ، كنا عايشين فيها نظيفين و الأكياس العلاقيات بيطيرين في
الجو اكثر من الطيور في السماء! حنا نظفنا شقتنا في المنيل و اشترينا ملايات جداد
و غطينا الصوالين بملايات جداد و خلاص. المنيل منطقة كل شي قريب منها. النيل
قبالها روعة زايد في الليل. الاسعار و الكل نعمة ، ارخص من اليمن!"
نظرت اليها الوافدة في استفظاع ان تكون المتحدثة مقيمة في بؤرة
الوساخة المسماة المنيل!!! ثم قالت :-" بعدا قالوا لنا على شارع جامعة الدول،
او الدقي رحت شفتهن. شارع جامعة الدول اهون اما الدقي شئبي!( شعبي ) مافيش أي
حماية من السرقات و المصريين هم سرق. ( منهم سرق فعلا لكن اووش في ضيقتش .) يجلسوا
السكان يغلقوا بأقفال و ترابيس و دواير و هندراب، عايشين في رعب! لا مقدرش انا
اتحمل اعيش في ترقب ايحين يهجموا علينا سرق؟!" اجابتها سيدة تسكن في شارع
جامعة الدول:-" لا ، والله ما به حاجة. احنا ساكنين هناك. والله انها منطقة
روعة و لا قد حدث حادث تهجم على شقة و لا مرة. البواب في الباب و بوابة العمارة
تتغلق في الليل." سألتها السيدة المستجدة :-" اوووه و "بواب" كمان؟! هذاك الذي يلبس
جلابية و مرته تجلس في الدرج و جهالهم ملان ذبان يتنططوا لش في الدخلة و الخرجة ،
اووو لالالا انا ما تحملش، و لو يزد يهجم
علينا سارق مصري ، يوووو رعب رعب رعب! انا بندور شركة سكيورتي تتولى حماية السكان و
الكمباوند كله من السرقات." قالت الوافدة
هذا وهي تفك معصم الساعة و تغلقه ، قالت لي الجالسة بجانبي وهي توشوشني ."
الساعة رولكس. " اردت ان الطم لكنني لم افعل ! رولكس و الا مش رولكس ، ما دخلني
انا لأتحمل هذا القرف بكله! اكملت الوافدة حديثها بعد ان اسقطت الساعة من يدها و
ناولتها اياها سيدة من الجالسات. لم تعيدها الى معصمها ، بل اكملت حديثها و هي
تسبح بها حتى اصابني داء اسمه في الطب الاجتماعي
"عدم تصديق عيناي" و الله العظيم. قالت :- " بعدا قالوا لي
به في منطقة اسمها الرحاب كامباوند سكني مغلق، جهة امنية تفتش في بواباتها كل
سيارة داخلة مدينة الرحاب. هذا الذي اشتيه. احنا اغراب ، نحتاج من يطمنا و يأمنا.
رحت مع زوجي للرحاب ، اتصاادمنا . مش شقق هذولاك ، ما غير حقق كبريت! خنقة و ضيق، صرفنا نظر عن الرحاب
تماما."
ظلت طوال الجلسة تحكي عن تجربتها في محاولة اكتشاف المنطقة الانسب
لسكنها. لم تترك منطقة من المناطق التي تسكن فيها الحاضرات الا وقللت من شانها ، و
شككت في نظافتها ، و أكدت على امكانية سرقتها. اتعبت الجميع. كان الجميع ينصت
اليها بصمت . اعتقد ان الفشارات في اليمن ازدهرت حياتهن من طيلة صمت الاخرين
امامهن. لم يحدث ان قال لها احد " يكفي غرورا و تكبرا. عيب . يكفي تقللي من
مكانة المحيطات بك."
ثم بعد ان تغير الموضوع من السكن الى الثياب ، تكلمت الوافدة عن
الثياب و الملابس في مصر. قالت ان الماركات في مصر اغلى من سعرهن في الخارج في دبي
مثلا او المانيا اوبيروت لأن " المصارية" مشم والفين للماركات ، فابيغلوهن
قوي. جذبت صدر قميصها و قالت انه بما يوازي 80$ مع انه في الخارج سعره 60$، و
البنطلون ب100$ و في دبي لقيته ب99$. سألت انا الجالسة بجانبي :- " انتي
سألتيها عن سعر القميص؟" هزت رأسها علامة النفي متسائلة :-" و انتي قلتي
لها بكم البنطلون؟" اجبتها :- " و لا فتحت فمي." كانت الوافدة ، مكنة
تفريخ الزنط و الفشخرة الكذابة تعمل و تنتج لنفسها بنفسها. عددت ماركات كثيرة ، بي
اتش اس ، اتش اند ام ، مانجو ، فيكتوريا سيكرت ، ماكس ( اما ماكس هذه هذه، اتجملنا قووي منها ، كلنا
ابتسمنا بارتياح ، و انا كدت اصفق تشجيعا لماكس الذي اوصلنا بعالم الماركات لأن في
منها باليمن) ام ام ار ، تفو اخس يخ ، اما الماركة الأخيرة فمن تصميمي و هي ماركة
المرأة نفسها .
سمعنا لاحقا انها سكنت في منطقة على طريق السويس بعيدة جدا عن القاهرة
بكلها ، قالت و هي تلف خصلة شعرها حول اصبعها ان جيرانها اقرباء الزعيم كما كانت
تلقبه و جيراننا بيت فلان انساب الزعيم ثم تنظر الى وجوهنا لترى وقع الاسم على
ملامحنا ، و قدامنا بيت علان اما ورانا ببيت فبيت زعطان اخوال عم اخت مرت عم ام
ابو بنت عمة مرت سواق الزعيم ، قائمة من
الأسر و اسماء الرجال الشهيرين بأنهم ما شاء الله تبارك الله مصوا اليمن و رموها
عظمة يابسة ما سدتش حتى جوع الكلاب. و الأخت تتفاخر بالسكن بجانبهم؟!!
الخلاصة يا اهل اليمن، الثقافة ليست في شهادة جامعية و لا ماجستير و
لا دكتوراه . الثقافة علم و اخلاق. و ما هو التفاخر ؟ انه يعوض نقص . نقص في الاخلاق
او نقص في العلم. اما الوافي الاخلاق ، المدرع بالعلم فهو ملك و متوج لنفسه بنفسه
بتاج القناعة و الرضى. فلا يحتاج للزنط و العنطزة هذه كلها ابداً ابداً و كان الله
في العون. و يا حامل الأثقال خففها شوي...كما غنى ابو بكر سالم .
صورة الترمس و الكتلي