اقلكم مالي؟

لست اخاف  من قول الصدق  فهو أبي الذي أريح جبيني على كتفه ، و لست اخاف المجاهرة بالأمر الواقع و لا ، لن اخفيه مهما ارتعشت خوفا و مهما عصرني قهري. انا – و ذلك من فضل الله – امرأة  ولست رجل اذا خاف استحى من البوح بخوفه حرصا على عدم خدش رجولته. الأن  انا لي وطن بعيدة رائحة ترابه وقت المطر عني كثيرا ، اسميته يمن ، لي فوق كفه الأسمر المضموم شربة ماء ولسوف اشرب ذات يوم و لي بوسط كفه بيت اسميته مملكة.
 بيتي : استحضر نفسي اتحرك فيه واجلس في ديوانه ، افتح نوافذه.  اراك يا بيتي داخل جفوني حين اتوسد مخدتي ليلا لأنام . تتجسد امامي فارس فوق خيل ابيض فلا تبيت وطنا بل فارس احلام اسميته حبيبي انا اليمن.  لي صديقات تحت سماءك يا يمن اغمض عيني فأراهن، اسمع ضحكاتهن و اسلم على  خدودهن وانا مغمضة العينين لأنني إن فتحتهما لا اجد أي منهن  حولي و لولا العيب في اليمن لعددتهن اسماً، اسماً و لنقطت بدمعي احرف اسمائهن الجيم و النون و التاء والشين و الزين . لي شتلة نعناع فوق درج مدخل بيتي اسقيها ظهرا، امسح بأناملي ورقها لأنقل إليها روحي ، لأشرب الشاي ووريقات منها تعلو كوب الشاي. انا معترفة و اعلن انني هربت منك يا يمن وبدأت الحافلة تبتعد عن بيتي وانا انظر خلف كتفي ، ذاك باب بيتي ، ابتعدت الحافلة  فأختفى، تلك بقالة فؤاد المجاورة لمنزلنا ثم اختفت ، ذاك الجامع الذي يقصده اهل حينا ثم اختفى ، ثم تلك محطة بترول طالما وقففنا ننتظر عندها ثم اختفت ،ثم يغيب البيت والحي بكله ، تلك شوارع صنعاء  الموحشة عقب الحرب، تلك محالها المهشمة و ها لافتاتها مبعثرة ارضا ، هؤلاء ناسها القليلين في شوارعها في ذلك الوقت المبكر من الصبح. تعالي اطويك في ثنايا حقيبة ملابسي ايتها الأرصفة ، يا اكياس علاقيات طائرة تجمعي في حضني، استحيلي منطاد يرفعني اودع السحب و اتمرغ في السماء واتشبث بأجنحة  الطيور في الفضاء،  تعالوا الي يا مارة ، سأفتقدكم يا من لا اعرف عنكم سواء كونكم يمنيين. ، تعالوا اعانقكم بوجعي كله ايها المارة. انا راحلة و يعلم الله متى اعود و كم سيموت في غيابي  ناس ، و كم بيت سينهار بسبب  كم الف غارة؟ سأهرب منك يا يمن ، لأنني اخاف من صوت القصف وانتظار متى يسقط فوق رؤوسنا صاروخ. سأهرب لأنني لست قوية لأبقى و انا من كنت اعتقد انني عنترة ابن شداد النساء. سأهرب منك و فوق حبال غسيل كل بيت سأترك مناديل مبللة بدموع روحي ، اتركوها تحت شمس صنعاء لعلي اعود. و فوق حبل الغسيل اتركوني حتى الليل لعل الحلم يسري بي كالأنبياء و اعود وقت المنام لأحيا اعلى الجبال ،حيث ارى كلها صنعاء .  لم اكن ادري انني هكذا احبك ، فطالما قلت انك استنزفتِ مني صبري و اليوم انا انتحب عند بابك أن افتحي لي و استنزفي دمي حتى آخر قطرة في وريدي. نحن اناس لا نعلم قيمة البصر الا بعد ان نصطدم بالعمى ،و لم اكتشف داخل سواد غضبي منك حبي لك يضيء ظلمتك التي اتعبتني. لماذا نفهم متأخرا، انا فعلا لست ادري.
في الحافلة يتناقش الركاب. ستنزح ناس الى السعودية ليكونوا قربين منك، فيعودون في اقرب فرصة. سينزح ناس الى مصر - مثلي - لأنها حيث لا يشعر الغريب ،من طيبة اهلها  بغربة ، سينزح ناس الى الأردن حيث لا يطالبون اليمنيين بتأشيرة دخول وهي بلد عربي و لكنها باهظة التكاليف. سيذهب بعض الناس الى ماليزيا لأنها ارخص و فيها يمنيين كثيرون. سيذهب بعض الناس الى تركيا على أمل الحصول على جنسية عقب سنوات قليلة ،. سيذهب بعض الناس الى السودان لأنها بلاد اشقائنا الذين امسوا يقصفوننا وهم مثلنا فقراء معدمين. سيذهب البعض الى الاكوادور سيذهب بعض الناس في هجرة الى السويد.  معظم الدول التي يلجأ اليها اليمنيين هي اساسا من الدول التي تقصف بلادنا لكن  لا بأس يا يمن، التمسي لأولادك العذر ، فالخوف اليومي من الموت قصفا شيء لو لم تكوني يا يمن ارض لما طقته و لفررتِ .سلام الله على الموت مرضا ، سلام الله على الموت كبراُ! مرت الشهور عقب النزوح و في كل صباح ننتظر توقف الحرب فإذا بها تظهر لنا وجه قبيح يوحي  لنا ان عاد المراحل طوال و عاد وجه الليل عابس كما قال عمي مطهر اطال الله عمره و متعه بالعافية. نتابع الأخبار فلا نجد من يرأف  لحال اليمن. هذا عميل لإيران و ذاك عميل للسعودية طيب مافيش عميل لليمن؟ الا يوجد من ولائه  لليمن؟ الا يوجد رجل بحق ابدا ابدا؟ شيء صعب و نحن ملايين الا يوجد عشرة رجال مخلصين ،او حتى خمسة يجدفوا بزورق اليمن نحو الميناء ، طيب بلاش خمسة ، اثنين او واحد يا ربي؟! يعز علينا نحن النساء و البنات ، و ينضم الى صفوفنا الأطفال و الشيوخ و المسنات في حزننا العميق هذا. لم تحبلي يا يمن الا بشوية ضعفاء و في نهاية المطاف " عملاء" يقبضون الأموال لتعيش اسرهم و طز فيكِ يا يمن. و بداخل اليمن كلنا فكيف تبيعوننا كلنا من اجل جيوبكم؟ يا عيباه من رجال اخر الزمن.
بعد مضي اشهر تقارب الثمانية ، او التسعة لا اريد ان اذكر ، تعرضنا خلالها لكافة احجام الاحزان و مقاسات الكآبة و ضاقت بنا كل ثياب الحياة. اسمى الأطفال الكآبة التي يحسونها و لا يدركون اسماً لها الا  ما يسمعونه ممن حولهم ، فيأتي الطفل مشيرا بإصبعه الى قلبه و يقل لأمه :-" احس بكؤب يا ماما." وهو يعني "كآبة"  اما كبار السن الذين ما كانوا يريدون الا "زوتهم" تلك فيمشون ببطيء داخل الشقق محتسبين، محدقي العيون فاغري الأفواه من "بهذلة" آخر العمر هذه وممن اخرجهم من "زوتهم"  شاكيين لنا انهم يستشعرون "كهابه".... و تطول طوابير الحزانى في النزوح. ليس ابو يمن حمل النزوح فيما يبدو، و لا نحن برمتنا اهلا للكؤب و لا الكهابة و لا الكآبة. لكن لعل القوى الماسونية تلعب بنا ضمن الشرق الاوسط برمته لإنجاح هدفها في التبعية لواحد و هو امريكا و كذا لإثراء بنوكها عن طريق التحكم بمصادر النفط . انهم اناس ناجحين تماما في الوصول الى اهدافهم و في تسخير و مكافأة رعاياهم من العملاء ، يجزلون لهم العطاء ، لا اتبجح على احد فقط انظروا - بأم اعينكم -  اين شباب الساحات وتأملوا- بأم اعينكم -  اين توكل كرمان على سبيل المثال لا الحصر طبعا.
المهم... قررت انني وصلت الى نهاية الطريق من جميع النواحي. قررت العودة إلى بيتي و عملي و مدرسة وجامعة ابنائي. لكن الحرب لم تتوقف ، و لا دوي الانفجارات و لا مناظر الدخان و النار ، فكيف تعودين لما اصلا هربتي منه؟ صحيح... لكنني اكتشفت ان النازح يفقد الكثير ، اكثر بكثير و اكبر بكثير من " الأمان" الذي ينعم به في مواطن النزوح. ليست الحياة فيما يبدو " أمان" و بس... الحياة وطن الواحد. كل الناس يمنيين...ما اروع هذه الحقيقة. كلهم،  كلهم و ليس واحد نسمعه يتحدث في الموبايل داخل مركز تجاري فنظل نأشر اليه كأنه فنان مشهور صادفناه. الوطن الانتماء ، كل ما حولي لي. الوطن انا اعرف الاتجاهات و الشوارع. اعرف اين اجد هذا و اين يباع ذاك. اذا مرضت اعرف اين العيادة و اين الصيدلية. اذا ضجرت اعرف اين التقي صديقة لي. اذا احتجت رصيد لموبايلي اعرف من اين و كيف. اذا اردت ان انتقل من مكان الى اخر اعرف ان اصف العنوان. اذا نظفت فأنا انظف بيتي و اذا نمت اتيقن انني سأصبح صباحا في بيتي. اذا توظفت فأنا اعلم اللغة الإنجليزية لجيل هم جيل يمني سيعود مردود جهدي فيهم لبلدي. اذا بكيت اعرف انني ليلا سأطل من نافذة غرفتي الى سماء مطفأة صحيح لكنها تمدني سراُ بما يجعلني اتقوى بالله الذي يملأ الاجواء و الفضاء، فيواسيني ايماني به فأمسح دمعي الذي أستسخفه و ابتسم لليمن التي تأويني. اذا جلست لأكتب كما افعل في هذه اللحظة ، احس ان الوقت متسع و ان القلم قدمي الحافية و ان السطور سواقي ماء ساخطو فيها و سأصل الى هدفي الذي يحتويني. قد يتساءل القارئ : ما دمت اريد ان اعود لماذا لا اعود؟ اليس البلد بلدي ؟ اليس بيتي شامخا لم يتهاوى ارضا؟ لكن!! و هذه اللكن كبيرة كبر الكرة الأرضية ، انا اخاف ان اعود و يحدث في صنعاء – حرب شوارع – مثلما حدث في تعز. فأموت و يموت صغاري و يتكلم عني من يعرفني انها الغبية التي عادت لُتقصف! قد كانت المرحومة في القاهرة تتفسح! عادت بنفسها و " ودفت" بأولادها و جعلتهم لقمة للغارات التي لا ترحم أحد ، و لا تأبه بخواطر ُتجبر!
غير خوفي من القصف ، انا كذلك خائفة ممن بالسلاح ركعوا الرجال ، و بالاختطاف مسحوا بشوارب الرجال نعالهم ، و بصهيونيتهم فجروا بيوت على مرأى من اصحاب البيوت ،و بالمرجلة الحمقاء حبسوا النساء في بيوتهن فلا يخرجن و لا يعتبن باب البيت من شدة الفوضى التي عمت ، و عدم الأمان الذي سيطر على صنعاء ، و بالسوق السوداء سمنت جيوبهم و هم من اساسا خربوا البلاد على الف في سعر دبة البترول. و بفضل من هذا كله؟ انه بفضلهم!
 اخاف ان ابقى في بيتي فيداهم بيتي الاشرار. اخاف ان اقصد وظيفتي فيعترض طريقي و يختطفني عصابة من الحوثيين ، قلك انصار! اخاف من الاهانة و التحقيق من عصابة لا تقرأ و لا تكتب ، اخاف من بلاطجة اسموا رئيسهم زعيم و اسموا السقيم رئيسا فار... و كلهم – لوجينا للصدق – دمويين دمروا اليمن ثم اختبئوا في الكهوف و الاوكار! نويت ان اعود !
فهل اعود؟
هذه الخواطر ، لن انشرها في أي موقع ، لأنها ليست قصة و لا مقال ،و لأنها لا تهم احد انها مجرد فضفضة احببت ان اشارككم اياها في صفحة كتاباتي هذه.

#سلوى_الارياني
أحدث أقدم

نموذج الاتصال