فجأة بدون أي تمهيد، أحسست أن معصمي مرتخي ضعيف ، ليس فيه قوى. شعرت بساعتي
الجلدية الرفيعة الأنيقة تثقل و تزيد من وهن معصمي فنزعتها و ألقيت بها صوب
الجدار. كأنما دمي يسيل حارا من الوريد. أين بأسي و قدرتي و قوتي
الحديد؟ استلقيت بإنهاك تاركة ذراعي ملقي بجانبي على الأرض.دمائي تسيل من عرق جس
النبض و ما من طبيب. كيف فعل ما فعل و أنا الأجمل؟
هذا الصباح لا يشبه صباحاتي. هذه دماء بنفسجية لا تشبه النزيف.خرجت إلى
فناء داري و الكل نيام. اشتهيت أن يخلق لي الله أحد ينظر إلى و يفهمني من وجهي و
لا يطلب شرح و لا مزيد. اشتهيت أسمع زقزقة العصافير التي اسمعها كل صباح ، فما عدت
اسمع أي صوت ، إما أن أكون ُصممت أو أن الكون أصبح بلا عصافير.رفعت عيني الحزينتين
إلى السماء فوجدت العصافير تطير.تنهدت فوجدت أنني أسمع التنهيد.إذن أنا لست صماء و
العصافير ملئ السماء، هل فقط العصافير أصابها البكم؟
عدت إلى داري أجر خطايا.ألقيت بنفسي فوق كنبة كأي قميص ،ربطة عنقه بلا
روح.تحسست معصمي بوجع و كأنما بداخله ينبض قلبي. كيف احتملت كل هذا الحزن أنا فعلا
لست أدري. قطبت جبيني و غضبت حين تخيلت كل نساء الدنيا بغايا،عرايا و أن كل رجال
الأرض زناة ،عراة. هززت رأسي بعنف لأطرد شبح الحكاية. نعم، خبايا كل الرجال خيانة
و سأظل أنا الأجمل.
ممتلكاتي ما عادت لي وحدي،أنثى ما احتلت مملكتي و جذبت من فوق عمري ستري و
دفايا.
بلعت ريق له طعم الأحزان، حين تذكرت أن الفتاة حين ترتدي ثوب الزفاف الأبيض
إنما هو زى تنكري لبياض الأكفان. عندما تترك البنت دار أبيها و حضن أمها ، إنما
تلقي بجسدها البكر من أعلى جبل...و في الأسفل
ذئب فاغرا فمه غريزته و حاسة الشم لديه تتبع الغدر وتقتفي أثر الخيانة.
تعامل الفتاة زوجها بإخلاص و يعاملها بكذب، يعاشرها مبيتاً نية مسبقة بعدم
الأمانة.
فوجئت بعد مرور شهر من الزواج بزوج يشك في و في كل ما حوله حتى الزوايا.
يتشكك كذا بنظافة الكأس.. يتشكك بالنظرة...يتشكك بالحركة...يجلس في المقعد صحيح
لكن يتجول في أوهام الشك و يسلك كل الدروب. أدركت منذ البدء أن رجلي ليس كسائر
الرجال و لا يشبه أبي. فهمت أنني لست بنت تزوجت مثل سائر زيجات البنات. استوعبت أن
ما عاد هناك فسحة، لكي أخرج،أو أتحدث في الهاتف،لكي أمرح،لكي أتدلل، لكي أضحك أو
أتزين أو أفرح. خلال مدة زمنية وجيزة نسيت و أنا من كنت رسامة ألواني و فرشاتي. نسيت أثوابي ، نسيت الموسيقى و كل الأغاني.أسقطت من
حساباتي دلال البنات و فقدت ذاكرة النساء.
واسيت نفسي أن لكل امرئ عيب ، الرجال و النساء على حدا سواء.لم أصارح نفسي
أن حظي كان في عيب كبير ، أكبر من أن ُيحتمل، أصعب من أن ُيعاش، أبشع ما فيه أنه
لا يترك في أي شيء بصيص أمل.
كان يتشكك في الملعقة. يقلبها بين يديه و يشتمها. فأواسي نفسي التي حرصت
على نظافة كل الأشياء أن الكون صار بلا زقزقة عصافير و هذا أمر جسيم فماذا في كون
زوجي مريض بالشك هذا أمر بسيط. بعد أن فرغ من الأكل طلبت منه أن يأخذني لمنزل فلان
لكي أزور صديقتي فيمعن في وجهي النظر. يسألني من أين أعرفه؟ متى حدثته؟ هل سبق أن
قابلته؟ يطلب مني أن أصف وجهه و قامته؟أواسي نفسي أن الكون صار بلا زقزقة
عصافير.أمضغ ،أبتلع المرارة، أسأله و أنا أغالب دموع المهانة :-" و هل معرفة
اسم زوج صديقتي دليل إدانة؟"
انسلخت الحياة أمام عيني. كان بيتي
غريب و مظلم، بينما كل الدنيا طبيعية ، في حالة ربيع دائم تتداخل ألوانه. فيه
زقزقة عصافير. و في بيتي زئير أسد متربص يوشك على الهجوم أكاد أرى ببصري مخالب أسد حين تقترب من عنقي بنانه.
غير أنني لم أحزم أمتعتي و أرحل... مثلما أغلبية النساء تفعل. لم أهجر بيتي
و لم اختر الطلاق لثقتي أنه ما كان سيمتعني بهذا الحل الأمثل. بل كان سيشغل شكه و
يألف قصة لخيانتي له و هو اختياره المفضل.
كان اختياري أن أتعلم، أتقن، أتمرس حتى احترف الكذب. فأزور أمي و أنا أرتجف
رعبا خشية أن تصدمني سيارة فأموت فيجيء إلى محاسبا كيف خرجت دون علمه و كيف سمحت
لروحي أن ُتقتل؟ أخرج لأشتري ثوب ملون من محل قريب ، أخبره أن أختي اشترته لي
لأنني أحب ألوانه.أخرج لأشتري الزجاج و الألوان و الفرشاة لكي أرسم ون أخبره أن
خالي مر لزيارتي و أهداني معدات الرسم هذه و أطمئنه أن خالي قال أن الزيارة ستكون
الأخيرة. إذا رسمت امرأة حزينة سألني من أين أعرفها ؟لم يلحظ برغم شكه أن ملامحها
تشبهني أنا. إذا رسمت باقة ورد لا يحيط بها عصافير سألني أين الباقة؟ و من أهداني
إياها؟
برغم هذا كله كنت أحبه. لعله مريض و لعلي كذلك. هو ظالم و لعلي أسيرة. أحبه
كما تحب كل الفتيات المخلصات أزواجهن و لو تعاملوا معهن كأغنام في حظيرة.كنت ألتمس له الأعذار و أبرر
له أنه قد يكون مر في طفولته بتجربة
مريرة. فأشفق عليه فهو ضحية... و أتناسي نفسي لأنني غبية. أشفق و أحنو عليه حال كل
حمل وديع يتمسح بجلد وحش من وحوش البرية.
مرت بنا السنوات ، كبرنا و تكرمشنا. كان هو مريض ، يخرج ما بداخله من شك و
عقد في وجهي أنا و وجوه أبنائنا. فبدت مظاهر السن عليه طفيفة بينما شبت أنا..و شاخ
أبنائنا الشباب. حتى الصغير بدا أكبر من عمره الحقيقي بكثير.
فجأة و الحياة تمضي بنا بهذا الشكل العسير خرج و نسي موبايله. وصلته رسالة.
لست أدر لماذا اقتربت، لست أعي لماذا قرأت. كانت الرسالة تقول :-" أين أنت؟
تعبت أنتظرك و العطر الذي تحب يكاد يتبخر في الأجواء." في تلك اللحظة صار
الكون بلا عصافير.صارت العصافير إن وجدت تمشي و لا تطير. صار لدي عدو، أختطف زوجي
أنا، أصبح هذا العدو أثير..عندما عاد من الخارج وضعت الشاشة أمام عينيه و تمتمت
:-"هذا كثير." لم يعلق، لم يتكلم. حملق، دار حول نفسه، صاح قائلا
:-" أفعل ما تفعلينه، أنت الخائنة." فصمت و كفت العصافير عن الزقزقة ، و
سكنت روحي فربما تكون ألان في مكان أفضل .
سلوى الإرياني