ربيع في مدرسة

كانت المدرسة التي أعمل فيها أستاذ لغة عربية هي درعي الوحيد، الحديد الذي أحتمي خلفه من رماح الزمان. تحوي طلابي،أصدقائي، أدائي الرائع،متعتي، ، ضحكي، ، راحتي ، استيائي و الأهم مصدر رزقي. هي مدرسة أهلية أستأجر مبناها أربعة رجال من عائلات مختلفة. أما المدير فقد كان قريب أحد ُالملاك .
 كنا جميعا من أساتذة،أستاذات، إداريين، أمينة المكتبة و عامل المقصف و المنظفات نعمل بكل حب و بذل لأن مالكي المدرسة قاموا بخطوة جريئة، سخية لم يسبقهم إليها أحد، و هي  -تعليم أبنائنا نحن العاملون في المدرسة مجاناً،و من كان أعزب درسوا أحد أخوته مجاناً. فتمسكنا بالمدرسة تمسك الغريق بطوق النجاة.
كنا لا نحب المدير لأنه غبي أنتهج أسلوب الشدة و المهانة ظناً منه أنه بهذا يطبق القانون بحزم و يسير المدرسة بآلية لا تتوقف عند أي عقبة. لم نشتك منه لأي من مالكي المدرسة لعلمنا المسبق انه قريب أحدهم فلن ينصت إلينا أحد، و لمعرفتنا بمدى ضخامة الأرباح مما يجعل المالكين يتمسكون به.

في أحد الأيام أجتمع معنا المدير و فاجأنا جميعاً بالثناء  علي و المديح الكبير لطريقتي التربوية في التدريس ، حياني و طلب من الكل التصفيق لي. وضعت يدي على صدري ممتناً. ثم ابلغنا جميعا أنه رفع راتبي 3000 ريال، لأكون قدوة و مثلا ُيحتذي به. رمقني زملائي بنظرات مصفرة و ابتسامات شاحبة و سمعت همهمة أنثوية تتناسل داخل الاجتماع.بعد خروج الأساتذة استمهلني المدير. قال إن الزيادة في الراتب ليس لمهارتي في التدريس و حب الطلاب لي"فقط" - فهذا واجب - بل لأنه سوف يوكل إلى بمهام جديدة. قال لي انه سيتأخر صباحا في الحضور إلى المدرسة و أن علي أن اشرف على الطابور.أسجل اسم من يتأخر في الحضور من الأساتذة. من تكرر تأخره يخصم من راتبه ألفين ريال. قلت له :- هذا عمل لا يقدر عليه إلا سيادتك، يا المدير. ربت على كتفي كأنما يزيدني شرفاً، و هتف:- أنت كفؤ يا رجل! ثم أضاف بسماجة مفرطة:- طبعا الطابور عمل روتيني تافه، لكن سأمنحك فرصة لتنمية مهاراتك يا بطل، سوف أوكل إليك مقابلة أولياء الأمور ممن لديهم استفسار. قاطعته بتوسل شديد:- سيدي ، أولياء الأمور لا يأتوننا إلا شاكيين،ثائرين أو متباكيين،أعفني من هذه يا سيدي، أنت الرجل المناسب، أما أنا فصحتي و عمري لا يؤهلاني لذلك. رفع حاجبة باستخفاف و سألني متهكماً:- لماذا؟ هل أنت حمار، غبي أم حشرة لكي تعجز عن هذه المهمة؟
ظل يثرثر عن امتصاص غضب ولي الأمر الغاضب، و إخراجه من المكتب مبتسم. ثم ختم الحديث بقولة:- لا تنسى أيضا مراقبة مدرسي الأنشطة من رياضة و رسم و موسيقى فأنهم كثيري الهروب من حصصهم. هيا جهز نفسك يا بطل، حضر نفسك للتغيير، هيئ روحك للُعلا فقد تصير يوما مدير! خرجت من عنده مثقل ،كسير، أي تغيير وأي تغرير؟همست لروحي، ثلاثة ألف ريال لن ترفع من فوق كاهلي الكثير لكن هذه المهام ستطرحني أرضا، لكنني لم أرفض ، لأنني كما أدركت لاحقاً  حمار،غبي و حشرة.
صباح اليوم التالي لم يحضر المدير إلا في الساعة الحادية عشرة صباحاً.بمرور الوقت تعبت جسمانيا كثيراً،و خسرت محبة زملائي الذين لم يتقبلوا فكرة أن أوجههم و أنا زميل سابق.أولياء الأمور باتوا كوابيسي ، و في منامي كانوا فئران تقرض جبيني.
لاحظت بعد ذلك أن المدير يطيل الجلوس مع الموظف المالي في مكتبه. ثم لاحظنا جميعنا أن الرواتب ُتستقطع شهريا لأسباب سخيفة و كثيرا ما كانت ملفقة، في كل شهر أربعة مدرسين ُيستقطع من رواتبهم. حسبنا مرة مجموع الاستقطاعات فوجدنا أنها قرابة العشرة ألف ريال شهرياً. ضج المدرسون بالاعتراض و التمرد.أما أنا فكنت أجد في مرتبي كل شهر 800 ريال زيادة ،لم أخبر أحد عنها، خشية العين، كما أنني كنت ُمحرج لأنني لا أعرف من أين أتت؟
فجأة سافر المدير الأردن بحجة أنه يعاني من بداية مشاكل في الكلى. بمجرد سفره اجتمع المدرسين و قرروا زيارة أحد مالكي المدرسة لإطلاعه على ما يدور في المدرسة من ظلم و استقطاعات. ذهبت معهم أساندهم لأنني كنت أرأف بهم ،بعد أن أكملوا شكواهم، استغلوا فرصة مرافقتي لهم فطلبوا من مالك المدرسة أن يرى ماذا فعل المدير بي، حيث كنت قد فقدت 5 كيلوجرامات من وزني، بت شديد العصبية من ارتفاع الضغط. سمعتهم يصفون للمالك كم حملني المدير، كم ألقى من مهامه هو فوق ظهري أنا، كيف أنهم أمسوا لا يرون ابتسامتي.أشجاني حديثهم عن مصابي فبكيت! أنفعل أستاذ التربية الإسلامية فهب واقفاً:-  رجاءً يا سيدي أن ترحم هذا العبد المغلوب على أمره، و تنصفنا من هذا السلطان الجائر، سنصبر على أي مصاب أما أكل شقائنا و شرب عرقنا فسحت لا نقبل به. تعالى ُهتاف بقية المدرسين المتحمسين فانبطحت أرضاً خشية أن ترشقني سهام  غزوات الجاهلية.
في اليوم التالي، و كان المدير لا يزال غائباً في الأردن، جاء إلى المدرسة  ولي أمر ملتحي ثائراً، لأننا سمحنا للبنات بلعب كرة السلة، قال أن ذلك قد يخش عذريتهم فهالني ما قال. عبثا أمتص غضبة، عبثا أهدئه ، كان شره مستطيراً، رذاذه متطاير، فلما نفذت كل مهاراتي في تهدئته انفجرت في وجهة قائلاً:- ماذا في لعب البنات لكرة السلة يا مفتري؟ ففغر فاه ذهولا، و خرج لاعناً إياي، جاهرا بسباب ذكرني بسباب آل قريش لمن أسلم و آمن برسول الله، سحب ملف ابنته و خرج و هو يسب مدارس الأبالسة ! بمجرد خروجه سقطت مغشيا علي. أسعفني زملائي، كنت أسمعهم يقولون لعنة الله على هذه الثلاثة آلاف ريال التي حملتني فوق طاقتي. بعضهم قالها بحب،و أغلبهم قالها بشماتة.لم أبك لأنني كنت مغشياً علي.
بعد يومين خرجت من المستشفى. فوجئت أن أستاذ التربية الإسلامية ،ابن عكرمة، قد أصبح المدير. أما المدير السابق فقد استغنوا عن خدماته ، فلم يأسف لأنه كان قد فتح مكتب لخدمات السفر العلاجية إلى الأردن ، لم يكن في كليتيه أي علة!
كان المدير الجديد، أستاذ التربية الإسلامية رجل غير مريح الوجه. كان أول ما قام به هو طرد مدرس التربية الرياضية وكل المدرسات الإناث باستثناء أمينة المكتبة حلوة العينيين ضاعف راتبها لكل عين راتب! طرد عامل المقصف بحجة انه يسرق أموال المقصف و عين عوضا عنه شاب صغير ملتحي. كذلك أخفض رواتب كل من ليس في اسمه "عبد"...فأنخفض راتب الأستاذ علي، الأستاذ كمال، الأستاذ فؤاد، الأستاذ فوزي،الأستاذ عبده، عبثاً يحلف له أن اسمه أساساً عبد الله و إن "عبده" هو فقط اختصار،فأجابه:- ثكلتك أمك يا رجل، ألم تجد إلا اسم الله لتختصره.خفض أيضاً رواتب من لم يلتحقوا بالمدرسة  إلا منذ عامين فأقل. رفع رواتب من التحقوا بالمدرسة منذ خمس سنوات و أكثر و لم يكن عددهم يتجاوز الأربعة، أنا ثالثهم و هو رابعهم. كان الموظف المالي صديق مقرب لي، فأسرني بالقول أن هذه التخفيضات في الرواتب و الاستقطاعات لهي شفوية، عينية فقط، أما ورقياً فهي غير مذكورة، بحيث يظن من يراجع حسابات المدرسة من مالكيها أن الرواتب كما هي. أذهلني كلام صديقي المحاسب .
 سألته بتعجب:- أيسرقنا "حتى" من كان بالأمس القريب مثلنا مسروق؟! هز المحاسب رأسه بالإيجاب الحزين.
عقب ذلك، أجتمع معنا مديرنا السارق- المسروق سابقاً، ليبلغنا رسمياً أن المدير السابق قد نهب ما نهب من ميزانية المدرسة و أن المدرسة صارت عاجزة عن تدريس أولادنا مجاناً لكن تقديرا لظروفنا سوف يأخذون منا 20% بالمائة فقط من الرسوم. تعالت أصوات الشجب و الاحتجاج. ولولت المنظفة. ترك المدرسة خمسة من خيرة كادرها.قدموا استقالتهم ، خرجوا فدخل بدلهم ستة أساتذة ملتحيين ، وعد المدير المعلم السادس أن يوظفه قريباً.
بدأ الأساتذة المتبقون يسترجعون عهد المدير السابق بكثير من الحسرة و الأسف. فلم يطرد المدير السابق أحد لأن اسمه علي أو ماجد! لم يستقطع من راتب من لا يستذكرون أسماء الرحمن كلها.أما أنا فوجدت أن هذه المدرسة أمرضتني و أتعبتني ، وجدت المدير الجديد ينطبق عليه المقولة القائلة:- جبتك يا عبد المعين تعينني فوجدتك يا عبد المعين سبب معاناة جديدة لي!الحمد لله ، قلت عبد المعين، لا قلت معاذ و لا توفيق!
أجتمع عدد من مدرسين المدرسة و ذهبوا لمدير المدرسة السابق يعتذرون له.راجيين منه أن يعيد التفكير و أن يعود لإنقاذ السفينة قبل أن يغرقها الربان الجبان!
حاولت يومها أن أقف في وجه زملائي و أمنعهم من هذا الذهاب الجريح النازف فلم ينصت إلى أحد. سألتهم بغضب:- كيف تطرقون باب من قد ظلمكم سابقاً ؟يا جماعة في يدنا باقة ورد يجب ألا نطرحها أرضاً إلا بعد أن يفوح عطرها في الجبال و الوديان.و لسوف ينتشر عطرها حتى تشم عبيره كل الدنيا.
أخبرتهم أننا ُنخطئ باللجوء إلى ميدان قتال، كل من فيه طاعن و كل من فيه مطعون، كل من فيه سافك دماء و كل من فيه دمه مسفوك. كان حلقي قد يبس من طيلة ما حاولت إثنائهم عن الذهاب، قلت :- نحن نريد مدير إنسان،بين كل هذا الشعب و هو ملايين، ألا يوجد إنسان؟ نريد مدير إنسان ابن إنسان،مطلوب يا بشر إيجاد "إنسان" يعلم قبل الألف باء، فن الحب ،حرفة بلوغ الأماني، مهارة التضحية وأبجدية الوفاء. صرخت في وجه زملائي: - لا تذهبوا لظالم، ما أنساكم،أنا مستعجب، كل تلك المظالم؟الله موجود فلا تيأسوا من رحمته، لا تكفروا بالله، قولوا لا للمدير السابق، قولوا لا للمدير الجديد.. بلادنا ُتزهر فيها براعم، سيشرق من بين البراعم جند و قائد وليد، قولوا لا للظلم المتوارث، لا نهتم بهوية الظالم،.قولوا لا بلا حدود.لا تخافوا يا أحبائي من قرش البحر فتلقوا بأنفسكم داخل دوامة، فمن  يخشى جهنم أولى به أن يصلي و يعمل بجد و يحسن النوايا، لا أن يدعوا الله أن يعجل بيوم القيامة!
أحدث أقدم

نموذج الاتصال