انتقلت إلى شقة جديدة.
يبدو هذا للمستمع انه شيء رائع، و لكنة ليس كذلك. لقد تنقلت خلال فترة سبع سنوات خمس مرات. صحيح انه أمر يبدد الروتين و السأم في الحياة عندما تتغير النوافذ و الجدران لكنة أيضاً مكلف و مجهد! إضافة إلى أنة يشعر المرء في وطنه انه لا يختلف كثيراً عن اللاجئين إلا في كونه ابن هذا البلد. انتقلنا المرة الأولى لأن مالك العمارة أراد أن يأجر العمارة لأطباء قرروا فتح مستشفى فاشل الأطباء فيه مرضى و تشخيصهم دائماً خاطئ. انتقلنا المرة الثانية لأن مالك العمارة أراد أن يأجر العمارة لمالك رأس مال أراد فتح مدرسة لا تربيه فيها و لا تعليم و لكن يوجد فيها "في كوفي" و مقاعد فاخرة و سبورة تصدر صوت إذا أخطأ المعلم في إملاء كلمة، انتقلنا المرة الثالثة لأن مالك العمارة أضطر لتزويج ابنه في شقتنا لأن منزلة هو قد تعبأ بأبنائه الأكبر و زوجاتهم و أطفالهم. انتقلنا المرة الرابعة لأن العمارة كانت في منطقة خالية و استأجر المنزل المجاور لنا رجل سرعان ما بدأنا نلاحظ كثرة وقوف السيارات الفاخرة أمام منزلة، سيارات معتمة بالعاكس الأسود ، و دخول شابات خطاهن لها صوت الخلاخيل و يحملن في أيديهن أكياس و لا يخرجن بعدها إلا بدون أكياس و أصوات الموسيقى و الضحك مرتفعة جداً فخفنا على بناتنا من تشويه السمعة فانتقلنا من هناك.
و هذه المرة الخامسة انتقلنا لأن جارنا في الشقة المجاورة لنا في نفس الدور كان مدمن مخدرات و كان يتشاجر مع جميع سكان العمارة و يضرب زوجته و أبناءة بشكل يومي.. و هدد أسرته ذات ليلة بتفجير نفسه بأنبوبه الغاز إن لم يخرجوا كلهم ليناموا في الشارع و يتركوه وحده في الشقة لأنه ما عاد يطيق رؤية احد، و كنت أستغرب من أين يأتي بكل تلك الطاقة لفعل كل ما كان يفعله فهو كان لا يمل و لا يكل، أرهقتنا صحته، حتى ضقنا نحن و غادرنا بحزن شديد و هذه المرة دعونا الله أن تكون الأخيرة فقد تحرينا الموقع و الناس و السعر و كل مقومات نجاح السكن.
احتفالا بالشقة الجديدة قررت أن ُأفرح أولادي و زوجي المسكين الذي يتهاوى تعباً يوماً يعد يوم، بتحفة جديدة تزين أجواء البيت لطالما تمنينا اقتناءها و قد وفرت قيمتها من راتبي حيث أعمل كمعلمة في مدرسه هي الوحيدة التي لم تتغير طوال السبع سنوات و لا راتبي فيها تغير فيه رقم واحد. قررت شراء حوض أسماك متوسط الحجم. كنت قد رأيت في منزل صديقة لي حوض صغير قالت أن سعره 3 آلاف ريال، فوفرت عشرة آلاف ريال من راتبي لكي أشتري حوض أكبر من الذي رأيته لأنة كان صغير. أنا أردت واحد مساحته أكبر و توقعت أن لا يتجاوز العشرة آلاف ريال. الأسماك جميلة و شكلها راقي و سيكون من دواعي فرحتنا أن نتأملها تأكل و تسبح و تتكاثر بإذن الله.
سألت عن أفضل مكان لبيع أسماك الزينة و عرفت انه محل اسمه "قصر التحف". فذهبت و في حقيبتي العشرة آلاف ريال و أنا أشعر بالسعادة مقدما و أتخيل صغاري كيف سيلتفون حول الحوض لمشاهدة الأسماك تسبح و تتماوج. تخيلت كيف سوف أعلمهم أن لا يكثروا من إطعامها لأن طعامها غالي أولاً و ثانياً لأن الأسماك لا تعرف أنها شبعت و تظل تأكل كل ما تلقاه من طعام حتى تموت من شدة الشبع... انه شعور قل أن نتذوقه نحن البشر، أقصد الشبع أما الموت فكلنا ذائقيه!!! سوف أختار ألوان فسفورية للأسماك مثل الأصفر و البرتقالي و الفيروزي و الذهبي. فكرت أنني سأختار أربعة ألوان و سنسمي كل سمكة باسم أحد أبنائي و من ثم صرفت نظر عن ذلك لأن السمك كما سمعت سرعان ما يموت...و أنا سأتشاءم من موت سمكة تحمل اسم ابن أو ابنه لي. إذن سنسميهن أسماء فيها دلال مثل سوسو و توتو و ميمي و ما شابه. كنت أشعر بسعادة لم أستطع إخفائها ، دخلت محل قصر التحف بابتسامه عريضة.بمجرد دخولي وجدت قفص ذهبي كبير بداخلة ببغاء كبيرة الحجم امتزج لون ريشها بالرمادي و الأحمر و عيناها الدائريتين كأنهن من زجاج و جريئتين كأنهما يحققا معي. كانت الببغاء تنظر إلى من الأعلى إلى الأسفل بشكل متتابع حتى جعلتني أبتسم مستغربة طريقتها في النظر إليَ. تنظر إلى كأنها تقول لي "من تكوني؟ و ماذا تريدين؟!!!" تجاهلتها و ذهبت باتجاه السمك.
أخبرني البائع أن أحواض الأسماك في الدور الثاني. صعدت فوجدت مساحة كبيرة للأحواض و اسماك صغيرة تسبح و تتلأ لأ. رأيت ألوان نارية و أخرى بنفسجية و وقفت أتأمل أيهن سأختار. أستقر رأيي على أربع منهن بألوان خلابة و اخترت حجم الحوض الذي أريده و كان يحتوي على ديكور بداخلة كسفينة محطمة في قاعة كأنما في قاع المحيط لكي لا تشعر السمك بالغربة و يحتوي على مرجان و طحالب بلاستيكية و ساورني شعور يشبه الحسد. لا شك أن الأسماك منعمة في محل قصر التحف. أخبرت البائع أنني أريد 4 أسماك و أشرت إلى الحوض الذي أريد متسائلة عن سعره، فتلقيت الرد كالمطرقة حين قال"الحوض بأربعين ألف". تلفت حولي لاعتقادي أن الرجل لا يمكن أن يقصدني أنا بهذا الرد فلم أجد سوانا في الدور. قلت له بذهول :"كم؟" كرر ردة بابتسامة مستخفة لما لمح من علامات الصدمة بادية على محياي. نظرت إلى الأسماك بحزن لم استطع إخفاءه و أدرت ظهري لأنزل إلى الدور الأول لأخرج. نزلت الدرج شاعرة بإحباط و حزن. 40،000 هذا فعلاً مبلغ كبير،أضف إلى ذلك سعر السمك، و احتمال موتهن كبير جداً. كيف سأشعر لو صحوت يوما فوجدت الأسماك الأربعة قد ماتت، و نظل أنا و الأربعون ألف وجهاً لوجه؟! و كم قد صرفت على طعامها،و الكهرباء التي ترسل فقاعات الأكسوجين داخل المياه و كم سيتعبني تنظيف مائها و تجديده. أن تربية اسماك مهمة صعبة تستلزم جهد و ما أنا إلا امرأة مسكينة . واسيت نفسي أنني أصلاً لا أطيق رائحة السمك فكيف سأنظف بيدي حوضها؟ عضضت على شفتي خشية أن تسيل دموعي و أنا أتذكر وجوه صغاري الجميلة و الخيبة التي سترتسم على وجوههم حال عودتي.
ماذا سأقول لهم؟؟؟ الحوض قيمته 40،000و أنا لدي 10،000و هل يفهم الأطفال ما هي الأرقام؟ إذا كانت أمهم لا تعرف الحساب و لا تخمين الأسعار فكيف بالأطفال الصغار؟؟ عدت إلى الدور الأول فوجدت تلك الببغاء بألوانها الأحمر و الرمادي ترفع رقبتها و تنظر إلى من الأعلى إلى الأسفل. و تتحرك من جهة لأخرى فوق الأنبوب الخشبي الذي تتشبث به قدميها. ما بها هذه الببغاء ، ماذا يضايقها عندما أمر من أمامها‘ فعلاً تتحرك بعصبية من جهة لأخرى و ترمقني بازدراء. تنهدت حزناً على حوض الأسماك الذي بات من المستحيلات و سألت الرجل "كم سعر هذا الببغاء القبيح العينين ،لا أريد أن أخرج فارغة اليدين؟" أجابني و هو يرفع حاجبيه و كأنه ينتمي إلى مجتمع لا يرضع السباب منذ ولادته، " سعره سبع مائة." هززت رأسي... و أعطيته ورقة بألف ريال قائله:" حسناً ضع القفص في سيارة التاكسي الذي تنتظرني أمام المحل." قلب الرجل الألف بين يديه و كأنني أعطيته منديلاً ورقياً غير نظيف. سألني بذهول ،"ما هذا؟" أجبته متعجلة،"بسرعة أرجوك و ارجع لي 200 ريال و مائة خذها لك نظير حمل القفص إلي السيارة" فأبتسم و نظر إلى نظرته إلى عجوز شمطاء من العصور الغابرة،"يا أمي هذا سعره 700$ و ليس700 ريال يمني." ُصعقت. هل الرجل جاد؟ بسكون مددت يدي و سحبت الورقة النقدية بحزن غامر من بين يديه...و أشرت بيدي أن لا بأس، من يريد هذا الببغاء؟ بل أن وجود طير سجين داخل المنزل يجعل أهل البيت ظالمين!!! ذهب الرجل و هو يغالب الضحك، فليضحك المعتوه فليضحك، فنحن أهل اليمن لم نصل إلى ما نحن فيه إلا من الضحك و اللامبالاة. وقفت أمام الببغاء بتحدي، كان الوقح ينظر إلى باحتقار. قلت له دون أن أنطق بكلمة :"سعرك مرتفع أيها الببغاء. 700$ فلوس كثيرة و مثيرة للحسد. هل أنت من غابات أفريقيا أم أوروبا؟ كيف استطعت أن ُتثمن قيمتك عاليا ها هنا... فنحن بتنا بشر بلا قيمة و لا وزن... فقط تشبثنا بالأسماء، أسماء البشر !!!"
نظر إلى الببغاء من الأعلى إلى الأسفل و قال:" و هل تقارني نفسك بي؟؟؟ أنا طعامي و شرابي و مسكني جميعهن ُمَؤَمنات و َمضُمونات بدون مشقة بل و بلا جهد، فاسترجعي أنت كم تعرقي و تحاربي و ُتهاني من أجل لقمتك و مشربك و مسكنك! تقارن نفسها بي هذه الحمقاء!!" صمت قليلا لأسترد ما بقي من قدرتي على الرد حيث رأيت الطيور كلها في الأقفاص قد تأهبت و وقفت منتصبة و نفضت أجنحتها و كأنها ستحضر طابور صباح العصافير، أرضت غرورها و مسحت حزنها هذه المناظرة. هدأت من أنفاسي و عدلت ياقة قميصي و قلت:"أي مأكل و أي مشرب هذا الذي تتشدق به يا غبي؟؟ أنت مسكنك زنزانة، بتعبير آخر بيتك سجن، أنت تحييا في مأتم!" رفع رأسه عاليا بشموخ و هتف:" هههاى، يتكلم المرء منكم عن السجون و كأن الواحد منكم حر و المرء منكم أبكم!"
بلعت ريقي و قد بدأ الغيظ يشعرني بحرارة الصيف و قلت:" طبعاً حر....يا مقلد الأصوات. أما أنا فأقول ما أريد...و حيث أشاء أذهب ، أناقش ما لا يعجبني، انظر إلي ساقي و معصمي، هل تري قيد أو أغلال؟ أنا حرة و لست خرساء المرء ليس أبكم...ماذا تقصد بأبكم، لم افهم؟"
كانت الطيور تلتفت إلى الببغاء و إلىَ و كأنها تتابع مباراة تنس، و كأنها تسمع، أجاب الببغاء:" حتى قولي لم تفهمينه؟؟ مسكينة ، لا تفهم. أنتِ لستِ حرة، و المرء في دنياكم ذليل يبتسم لمن يكره، يثني و يصفق لمن يبسط على مستقبله، و يشيد بمن يلعق حلاوة شبابه و عمره، يهتف لمن رأسه تحت نعله، و يسكت لمن يستعبده و يخدم لأنه ُمهان من يطعنه في ظهره! ها أنتِ أمامي، لا أنت قوية لتقولي" لا" و لا أنت مدركة لماذا يجب أن ترفضي، تعيشين مطأطئة الرأس ، يا مسكينة أنا مشفق عليك. "
شعرت بكرامتي ُتنطح، و أنا أمقت من ينطح كرامتي فقلت للببغاء الكريه:" ما بك مغرور هكذا؟؟ها أنت لك جناحين و دارك السماء و ها أنت داخل القفص ُتجبر، لا تستطيع لا أن تطير و لا حتى أن تخرج" قهقه قائلا":" هههاي، أنا مأسور، ماذا عنكِ يا من لكِ ساقين لم يخترقهن رصاص لكن خطاكِ خطى أعرج ؟!"
ما هذا؟ أي مهزلة هذه؟ الببغاء الوضيع يغيظني، و أنا لو شئت لفصلت رأسه عن جسده؟!!... و من شدة ما ضايقني ذلك الببغاء ، أردت أن ألقنه درس و أعلمه أنني استطيع أن أطلق سراحه و أكون صاحبة فضل علية لأنني عتقت رقبته، اقتربت من قفصه و في غفلة من البائعين في المحل فتحت باب القفص فخرج كالطاووس ، و عاجلته بقولي " لولاي لما عدت حر طليق، أنا صاحبة فضل عليك،هيا طير يا أسير." ترجل سيراً على الأقدام...طار في سقف المحل و البائعين يتهافتون للإمساك به غير انه انطلق من باب المحل نحو الشمس ، السماء ، السحب و صاح مليء المكان،" ها قد تخلصت من القفص، و من القضبان أما أنتِ فتعيشين بدون قفص لكنك مسكينة لا تعرفين الأمان."
يبدو هذا للمستمع انه شيء رائع، و لكنة ليس كذلك. لقد تنقلت خلال فترة سبع سنوات خمس مرات. صحيح انه أمر يبدد الروتين و السأم في الحياة عندما تتغير النوافذ و الجدران لكنة أيضاً مكلف و مجهد! إضافة إلى أنة يشعر المرء في وطنه انه لا يختلف كثيراً عن اللاجئين إلا في كونه ابن هذا البلد. انتقلنا المرة الأولى لأن مالك العمارة أراد أن يأجر العمارة لأطباء قرروا فتح مستشفى فاشل الأطباء فيه مرضى و تشخيصهم دائماً خاطئ. انتقلنا المرة الثانية لأن مالك العمارة أراد أن يأجر العمارة لمالك رأس مال أراد فتح مدرسة لا تربيه فيها و لا تعليم و لكن يوجد فيها "في كوفي" و مقاعد فاخرة و سبورة تصدر صوت إذا أخطأ المعلم في إملاء كلمة، انتقلنا المرة الثالثة لأن مالك العمارة أضطر لتزويج ابنه في شقتنا لأن منزلة هو قد تعبأ بأبنائه الأكبر و زوجاتهم و أطفالهم. انتقلنا المرة الرابعة لأن العمارة كانت في منطقة خالية و استأجر المنزل المجاور لنا رجل سرعان ما بدأنا نلاحظ كثرة وقوف السيارات الفاخرة أمام منزلة، سيارات معتمة بالعاكس الأسود ، و دخول شابات خطاهن لها صوت الخلاخيل و يحملن في أيديهن أكياس و لا يخرجن بعدها إلا بدون أكياس و أصوات الموسيقى و الضحك مرتفعة جداً فخفنا على بناتنا من تشويه السمعة فانتقلنا من هناك.
و هذه المرة الخامسة انتقلنا لأن جارنا في الشقة المجاورة لنا في نفس الدور كان مدمن مخدرات و كان يتشاجر مع جميع سكان العمارة و يضرب زوجته و أبناءة بشكل يومي.. و هدد أسرته ذات ليلة بتفجير نفسه بأنبوبه الغاز إن لم يخرجوا كلهم ليناموا في الشارع و يتركوه وحده في الشقة لأنه ما عاد يطيق رؤية احد، و كنت أستغرب من أين يأتي بكل تلك الطاقة لفعل كل ما كان يفعله فهو كان لا يمل و لا يكل، أرهقتنا صحته، حتى ضقنا نحن و غادرنا بحزن شديد و هذه المرة دعونا الله أن تكون الأخيرة فقد تحرينا الموقع و الناس و السعر و كل مقومات نجاح السكن.
احتفالا بالشقة الجديدة قررت أن ُأفرح أولادي و زوجي المسكين الذي يتهاوى تعباً يوماً يعد يوم، بتحفة جديدة تزين أجواء البيت لطالما تمنينا اقتناءها و قد وفرت قيمتها من راتبي حيث أعمل كمعلمة في مدرسه هي الوحيدة التي لم تتغير طوال السبع سنوات و لا راتبي فيها تغير فيه رقم واحد. قررت شراء حوض أسماك متوسط الحجم. كنت قد رأيت في منزل صديقة لي حوض صغير قالت أن سعره 3 آلاف ريال، فوفرت عشرة آلاف ريال من راتبي لكي أشتري حوض أكبر من الذي رأيته لأنة كان صغير. أنا أردت واحد مساحته أكبر و توقعت أن لا يتجاوز العشرة آلاف ريال. الأسماك جميلة و شكلها راقي و سيكون من دواعي فرحتنا أن نتأملها تأكل و تسبح و تتكاثر بإذن الله.
سألت عن أفضل مكان لبيع أسماك الزينة و عرفت انه محل اسمه "قصر التحف". فذهبت و في حقيبتي العشرة آلاف ريال و أنا أشعر بالسعادة مقدما و أتخيل صغاري كيف سيلتفون حول الحوض لمشاهدة الأسماك تسبح و تتماوج. تخيلت كيف سوف أعلمهم أن لا يكثروا من إطعامها لأن طعامها غالي أولاً و ثانياً لأن الأسماك لا تعرف أنها شبعت و تظل تأكل كل ما تلقاه من طعام حتى تموت من شدة الشبع... انه شعور قل أن نتذوقه نحن البشر، أقصد الشبع أما الموت فكلنا ذائقيه!!! سوف أختار ألوان فسفورية للأسماك مثل الأصفر و البرتقالي و الفيروزي و الذهبي. فكرت أنني سأختار أربعة ألوان و سنسمي كل سمكة باسم أحد أبنائي و من ثم صرفت نظر عن ذلك لأن السمك كما سمعت سرعان ما يموت...و أنا سأتشاءم من موت سمكة تحمل اسم ابن أو ابنه لي. إذن سنسميهن أسماء فيها دلال مثل سوسو و توتو و ميمي و ما شابه. كنت أشعر بسعادة لم أستطع إخفائها ، دخلت محل قصر التحف بابتسامه عريضة.بمجرد دخولي وجدت قفص ذهبي كبير بداخلة ببغاء كبيرة الحجم امتزج لون ريشها بالرمادي و الأحمر و عيناها الدائريتين كأنهن من زجاج و جريئتين كأنهما يحققا معي. كانت الببغاء تنظر إلى من الأعلى إلى الأسفل بشكل متتابع حتى جعلتني أبتسم مستغربة طريقتها في النظر إليَ. تنظر إلى كأنها تقول لي "من تكوني؟ و ماذا تريدين؟!!!" تجاهلتها و ذهبت باتجاه السمك.
أخبرني البائع أن أحواض الأسماك في الدور الثاني. صعدت فوجدت مساحة كبيرة للأحواض و اسماك صغيرة تسبح و تتلأ لأ. رأيت ألوان نارية و أخرى بنفسجية و وقفت أتأمل أيهن سأختار. أستقر رأيي على أربع منهن بألوان خلابة و اخترت حجم الحوض الذي أريده و كان يحتوي على ديكور بداخلة كسفينة محطمة في قاعة كأنما في قاع المحيط لكي لا تشعر السمك بالغربة و يحتوي على مرجان و طحالب بلاستيكية و ساورني شعور يشبه الحسد. لا شك أن الأسماك منعمة في محل قصر التحف. أخبرت البائع أنني أريد 4 أسماك و أشرت إلى الحوض الذي أريد متسائلة عن سعره، فتلقيت الرد كالمطرقة حين قال"الحوض بأربعين ألف". تلفت حولي لاعتقادي أن الرجل لا يمكن أن يقصدني أنا بهذا الرد فلم أجد سوانا في الدور. قلت له بذهول :"كم؟" كرر ردة بابتسامة مستخفة لما لمح من علامات الصدمة بادية على محياي. نظرت إلى الأسماك بحزن لم استطع إخفاءه و أدرت ظهري لأنزل إلى الدور الأول لأخرج. نزلت الدرج شاعرة بإحباط و حزن. 40،000 هذا فعلاً مبلغ كبير،أضف إلى ذلك سعر السمك، و احتمال موتهن كبير جداً. كيف سأشعر لو صحوت يوما فوجدت الأسماك الأربعة قد ماتت، و نظل أنا و الأربعون ألف وجهاً لوجه؟! و كم قد صرفت على طعامها،و الكهرباء التي ترسل فقاعات الأكسوجين داخل المياه و كم سيتعبني تنظيف مائها و تجديده. أن تربية اسماك مهمة صعبة تستلزم جهد و ما أنا إلا امرأة مسكينة . واسيت نفسي أنني أصلاً لا أطيق رائحة السمك فكيف سأنظف بيدي حوضها؟ عضضت على شفتي خشية أن تسيل دموعي و أنا أتذكر وجوه صغاري الجميلة و الخيبة التي سترتسم على وجوههم حال عودتي.
ماذا سأقول لهم؟؟؟ الحوض قيمته 40،000و أنا لدي 10،000و هل يفهم الأطفال ما هي الأرقام؟ إذا كانت أمهم لا تعرف الحساب و لا تخمين الأسعار فكيف بالأطفال الصغار؟؟ عدت إلى الدور الأول فوجدت تلك الببغاء بألوانها الأحمر و الرمادي ترفع رقبتها و تنظر إلى من الأعلى إلى الأسفل. و تتحرك من جهة لأخرى فوق الأنبوب الخشبي الذي تتشبث به قدميها. ما بها هذه الببغاء ، ماذا يضايقها عندما أمر من أمامها‘ فعلاً تتحرك بعصبية من جهة لأخرى و ترمقني بازدراء. تنهدت حزناً على حوض الأسماك الذي بات من المستحيلات و سألت الرجل "كم سعر هذا الببغاء القبيح العينين ،لا أريد أن أخرج فارغة اليدين؟" أجابني و هو يرفع حاجبيه و كأنه ينتمي إلى مجتمع لا يرضع السباب منذ ولادته، " سعره سبع مائة." هززت رأسي... و أعطيته ورقة بألف ريال قائله:" حسناً ضع القفص في سيارة التاكسي الذي تنتظرني أمام المحل." قلب الرجل الألف بين يديه و كأنني أعطيته منديلاً ورقياً غير نظيف. سألني بذهول ،"ما هذا؟" أجبته متعجلة،"بسرعة أرجوك و ارجع لي 200 ريال و مائة خذها لك نظير حمل القفص إلي السيارة" فأبتسم و نظر إلى نظرته إلى عجوز شمطاء من العصور الغابرة،"يا أمي هذا سعره 700$ و ليس700 ريال يمني." ُصعقت. هل الرجل جاد؟ بسكون مددت يدي و سحبت الورقة النقدية بحزن غامر من بين يديه...و أشرت بيدي أن لا بأس، من يريد هذا الببغاء؟ بل أن وجود طير سجين داخل المنزل يجعل أهل البيت ظالمين!!! ذهب الرجل و هو يغالب الضحك، فليضحك المعتوه فليضحك، فنحن أهل اليمن لم نصل إلى ما نحن فيه إلا من الضحك و اللامبالاة. وقفت أمام الببغاء بتحدي، كان الوقح ينظر إلى باحتقار. قلت له دون أن أنطق بكلمة :"سعرك مرتفع أيها الببغاء. 700$ فلوس كثيرة و مثيرة للحسد. هل أنت من غابات أفريقيا أم أوروبا؟ كيف استطعت أن ُتثمن قيمتك عاليا ها هنا... فنحن بتنا بشر بلا قيمة و لا وزن... فقط تشبثنا بالأسماء، أسماء البشر !!!"
نظر إلى الببغاء من الأعلى إلى الأسفل و قال:" و هل تقارني نفسك بي؟؟؟ أنا طعامي و شرابي و مسكني جميعهن ُمَؤَمنات و َمضُمونات بدون مشقة بل و بلا جهد، فاسترجعي أنت كم تعرقي و تحاربي و ُتهاني من أجل لقمتك و مشربك و مسكنك! تقارن نفسها بي هذه الحمقاء!!" صمت قليلا لأسترد ما بقي من قدرتي على الرد حيث رأيت الطيور كلها في الأقفاص قد تأهبت و وقفت منتصبة و نفضت أجنحتها و كأنها ستحضر طابور صباح العصافير، أرضت غرورها و مسحت حزنها هذه المناظرة. هدأت من أنفاسي و عدلت ياقة قميصي و قلت:"أي مأكل و أي مشرب هذا الذي تتشدق به يا غبي؟؟ أنت مسكنك زنزانة، بتعبير آخر بيتك سجن، أنت تحييا في مأتم!" رفع رأسه عاليا بشموخ و هتف:" هههاى، يتكلم المرء منكم عن السجون و كأن الواحد منكم حر و المرء منكم أبكم!"
بلعت ريقي و قد بدأ الغيظ يشعرني بحرارة الصيف و قلت:" طبعاً حر....يا مقلد الأصوات. أما أنا فأقول ما أريد...و حيث أشاء أذهب ، أناقش ما لا يعجبني، انظر إلي ساقي و معصمي، هل تري قيد أو أغلال؟ أنا حرة و لست خرساء المرء ليس أبكم...ماذا تقصد بأبكم، لم افهم؟"
كانت الطيور تلتفت إلى الببغاء و إلىَ و كأنها تتابع مباراة تنس، و كأنها تسمع، أجاب الببغاء:" حتى قولي لم تفهمينه؟؟ مسكينة ، لا تفهم. أنتِ لستِ حرة، و المرء في دنياكم ذليل يبتسم لمن يكره، يثني و يصفق لمن يبسط على مستقبله، و يشيد بمن يلعق حلاوة شبابه و عمره، يهتف لمن رأسه تحت نعله، و يسكت لمن يستعبده و يخدم لأنه ُمهان من يطعنه في ظهره! ها أنتِ أمامي، لا أنت قوية لتقولي" لا" و لا أنت مدركة لماذا يجب أن ترفضي، تعيشين مطأطئة الرأس ، يا مسكينة أنا مشفق عليك. "
شعرت بكرامتي ُتنطح، و أنا أمقت من ينطح كرامتي فقلت للببغاء الكريه:" ما بك مغرور هكذا؟؟ها أنت لك جناحين و دارك السماء و ها أنت داخل القفص ُتجبر، لا تستطيع لا أن تطير و لا حتى أن تخرج" قهقه قائلا":" هههاي، أنا مأسور، ماذا عنكِ يا من لكِ ساقين لم يخترقهن رصاص لكن خطاكِ خطى أعرج ؟!"
ما هذا؟ أي مهزلة هذه؟ الببغاء الوضيع يغيظني، و أنا لو شئت لفصلت رأسه عن جسده؟!!... و من شدة ما ضايقني ذلك الببغاء ، أردت أن ألقنه درس و أعلمه أنني استطيع أن أطلق سراحه و أكون صاحبة فضل علية لأنني عتقت رقبته، اقتربت من قفصه و في غفلة من البائعين في المحل فتحت باب القفص فخرج كالطاووس ، و عاجلته بقولي " لولاي لما عدت حر طليق، أنا صاحبة فضل عليك،هيا طير يا أسير." ترجل سيراً على الأقدام...طار في سقف المحل و البائعين يتهافتون للإمساك به غير انه انطلق من باب المحل نحو الشمس ، السماء ، السحب و صاح مليء المكان،" ها قد تخلصت من القفص، و من القضبان أما أنتِ فتعيشين بدون قفص لكنك مسكينة لا تعرفين الأمان."