بلا عنوان


بلا عنوان
في كل بقعة من اصقاع الأرض هناك دائماً " ِوجهة " . أي: مكان ستقصده، او تخطط بغية الوصول اليه. اذا لم تتوفر لديك في بقعتك " وجهة " ، و وجدت نفسك في منتصف الطريق، طاوياً تحت ابطيك ابناءك ، ُمَحمِلا فوق رأسك حقائبك ، فوق  كتفيك كيس قشر وصفحة من صحيفة داخلها ذمول ، عاضا بين اسنانك جوازات سفركم و في انفك زكام و في عينيك دمعة ذهول ، غير عالم اين تروح ، اعلم – يا صديقي  - انك نازح و ان هذا هو المُسمى  " نزوح ". إن وجدت نفسك مفارقاً وطنك، ساحبا خلفك احلامك و عشمك ، مهمشا من مستقبلك احلامك و طموحك و مؤجلا سكينتك ، سائرا بين سواقي دمعك على احبابك ، بيتك ،رزقك ،الى باب الله الواسع الكريم، اعلم انك نازح و ان هذا هو المسمى في الامم المتحدة نزوح.  حين تقف لتتلفت في كل الاتجاهات حتى بين قدميك ، دون ان تعرف ماذا حدث اصلاً  على غفلة هكذا، حتى لو اطلت النظر في السماء، لن تخبرك السماء اين المحطة القادمة و متى يكون لك مع الفرج لقاء؟ لن تصادف اشارات مرور، و لا لافتات ، و لا شرطي يدلك على الطريق...و لا جار و لا اخ و لا صديق.  حتى و لا حضن مواساة يخفي- في غمرة العناق - من عينيك البريق ، اعلم انك نازح و ان هذا هوما ُيسمى في اوروبا نزوح.
عندما تخطو خطوة للأمام، و خطوتين للخلف لتتراجع، عندما تسأل قدميك:-" الى اين؟" فتسمع صوت لقدميك و هي تتأتئ ، مثل طفل عاش سلسلة فواجع". تيقن ان هذا هو النزوح الذي ترويه كتب التاريخ. عندها  توقف يا صديقي ، لا بأس ان توقفت ، اترك صغارك يتساقطون من تحت ابطك ، و افغر فاك عادي لو نزل جواز سفرك ارضا ، و لو تبعثر القشر وتكسر الذمول وتهاوت الحقائب... خل كل شيء و طز ، فضي كفيك تماما وارفعهما  لتدعي على من كان السبب و صلي على اليمن صلاة  الغائب. ادعي على المسخ الذي ادخل داعش الى بلادنا  وهي بكر ، و عقب الاغتصاب كان اول من لاذ بالهرب. ادعي و لا يهمك، لا تخشى  احد. ادعى على من لم يهرب بل بقي " يسينم" على انهيار مدننا و رؤيتها واحدة بعد الثانية تتخرب".
استوعب – اخي النازح - مليا الحقيقة الجديدة العجيبة. انا نازحة وانت نازح و انتِ نازحة. لست سائح ، و لا دبلوماسي و لا رجل اعمال يسافر ليوقع على صفقة او يشرف على تنفيذ مشروع. انت نازح يمني أي انك تركت وطنك مكرها، هاربا من حرب ، خشيت إن بقيت ان تموت قصفاً. انت لاجئ ترجلت صوبك الصواريخ واقفة و بكلتا يديها دفعتك رويدا رويدا خارج بلدك. قف لتفهم ، لا تفكر في مائة حل ، سترهق نفسك. بل فكر بتروي و ادرس النتائج وتمهل... ليس مستحبا للنازح ان يندم !انت نازح و النازح قد يجوع ، قد لا يدرس صغاره، قد يمرض فلا يملك قيمة الطبيب والدواء ، قد لا يجد سكن ، قد يتسول ، قد يبيع معجنات فوق مقدمة سيارة، قد يكد و يعرق مقابل ابخس الأثمان . لا اريد ان اطيل الوصف لكي لا ابكي و انا اكتب. لأنني لاجئة انا نفسي. شتان بين يومي وامسي. أتذكرني كمن يتذكر شخص اتمنى الاقتداء به، مع يقيني انه انا نفسي. النازح شخص عرضة لكل صنوف التحجيم ، انواع الاستغلال، درجات الانهيار و الوان الاهانة. لا يليق بالنازح ان يتكبر او يتفاخر على من حوله، تماما كما لا ُيعقل  ان يطمئن انسان في يوم القيامة. فالغني و القادر صاحب السلطة مهما يكن يظل اسم الواحد منهم " نازح". لا اقصد هنا مطلقا الدعوة لخفض اعلام الروح و الجباه ، و لا لتنكيس رايات الكرامة ، لا والله ، مطلقا ، فنحن ضحايا و لسنا جناة . لم نكن يوما " فاعل" و طالما كنا " مفعول به" في هذه الحياة. لكنها ببساطة دعوة لنبذ المظاهر و " البرستيج " الفارغ ، و التأدب في النزوح . المثل قال : يا غريب كن اديب. فالنازح فقير مهما امتلك ، و إن اشترى منزل و بنى عرش فمحال ان ُيتوج ملك. النازح ضعيف ، يكفي ان يختلف مع احد من ابناء البلد فيعايره قائلا:-" ارجع بلادك بدل العنطزة" فيتلعثم و يرتبك. اكرر ، انا لا ادعو لا للذل و لا للانكسار كما اسلفت ، معاذ الله. انا هنا لا اتحدث عن كل نازح . بل اخص بالكلام تلك الشريحة " السمجة" التي تجاهد لتحافظ على مظهرها المتكلف، اتكلم عن الشريحة التي تلهث كي تبدو لامعة. اتكلم عمن اتعبوا انفسهم و استنزفوها و ارهقوا معهم من حولهم ممن يحاولون مجاراتهم ، يمشون مشي الطواويس و هم نازحين. اليس ذلك مضحكا؟ الطاووس اذا فتح ذيله فاسمه طاووس ، اما النازحين فليسوا طواويس ، هذا المفروض انه مفهوم و واضح.  ادعو هذه الطواويس لخلع نعل المظاهر المتسخة عند الباب ولتدخل باب النزوح بتفاؤل ، عقلانية ، بناء و ايجابية. ادعو الطواويس ينسوا ريشهم و يتحركوا داخل دار النزوح بتواضع و مشاركة للأخرين . اما من قرر العودة الى اليمن لُيقصف ، فهنيئا له دفن النزوح ، قد لا ُيقصف ابدا بإذن الله ، لكن معاناة مواطن تظل بالمقارنة بمعاناة نازح ارحم و اشرف!
القصص التي سأرويها خيال نسجت جدائله من واقع مشابه ، مناقض ، مقارب او همي. المهم انها ليست قصص واقعية حدثت او حضرتها شخصيا في الحياة. لاحد يقول لي :-"  تقصديني؟ تلك القصة عني؟" انا لا اعرف النماذج التي سأرويها ، و لا قصصي تعرف أيا منكن. انا فقط الاحظ ، اتخيل ، اضيف ، احذف لكي اوصل فكرة هذه الفكرة ليس هدفها تعرية احد لكن هدفها بكل بساطة محاربة المظاهر .)
*************************************************************************************
 كانت هذه مقدمة للقصص القصيرة ،التي لم اكن قد اخترت لها عنوان بعد و التي كنت انوى كتابتها بطريقة مضحكة لأنتقد ظاهرة التفاخر و التباهي في مجتمع النزوح اليمني هنا في القاهرة ، الاردن ، ماليزيا و تركيا و قد صرفت نظر تماما عن ذلك لأنني لاحظت ان كل بنت او امرأة اعرفها شعرت انها مستهدفة و انني اقصدها. لا زال راسخا في ذاكرتي بعد ان كتبت قصة " عقد قراننا مع صديد "  حضرت زفاف اخر بعد الزفاف المذكور في القصة و لم يجلس معي في طاولتي الا قريباتي ، ولاحظت بصمت انه بمجرد وقوع عين النساء القلة اللواتي يعرفنني ،علي حتى يبتسمن يذهبن في اتجاه آخر غير طاولتي ، اما صديقتي المقربة فجاءت و جلست معي وسألتني مازحة :- " اجلس جنبش و الا عتكتبي عني قصة؟ " فأجبتها :-" طبعا ،عداكتب عنش قصة." و بكل ثقل دم صدقت و راحت. لذا انا جديا صرفت نظر عن كتابة القصص او القصاصات  التي كنت انوي ان اسردها بشكل كوميدي حيث لم يكن لي أي هدف سوى نقد ظاهرة الزنط . لذا عزيزاتي الزناطات ازنطين و لا يهمكن... و يلعن ابو التواضع ويلعن ابو الاحساس بالأخر و يلعن ابو من يزعلكن.  لدينا من الهموم ما هو اكثر. تحياتي للجميع.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال