انتقلنا
إلى الشقة الجديدة بعد أن أخرجنا مالك العمارة من شقتنا السابقة بحجة أن
ابنه سيتزوج و يسكن في شقتنا. حاولنا مناقشته في الأمر لكنه أبى حتى أن
ينصت إلينا. هذا و هو يعلم جيدا أنني أرمله لدي خمسة بنات و صبي صغير.لكن
الله خير معين ،وجدنا شقة جديدة و انتقلنا إليها ليلة أمس
و وصل إلى مسمعي
أن مالك العمارة السابقة سيأجر الشقة لمكتب سفريات و أن الرجل أصلا لا
أولاد له لأنه عقيم. فدعيت عليه لأنه خسرنا الكثير من المال ، أتعبنا و
حملنا ما لا طاقة لنا به، أن يلقيه الله من المشقة ما لاقته العمارة من
السفارة في فيلم عادل إمام.
لدي
خمس بنات و صبي صغير توفي والده و عمره عامان. ألان هاهو يتجاوز الخامسة
من عمره. أما بناتي فأكبرهن موظفة توفر براتبها المأكل و المشرب. و الثانية
تعمل لكن براتب منخفض جداً فوليتها فقط مساعدة أختها الأصغر و أخيها
الصغير بالكتب و المستلزمات المدرسية و المصروف اليومي إذ أنهم في مدارس
حكومية و متطلباتهم محدودة. أما الثالثة فلا زالت في السنة الثالثة جامعة
غير أنها تعمل في وظيفة من العصر حتى المغرب راتبها لا يذكر ندخل به جمعية و
تشتري لها منه متطلبات جامعتها. أما الأخت الصغرى فلا زالت في المرحلة
الثانوية و الصبي سيدخل قريبا الصف الأول. هكذا تبحر سفينتنا في الحياة.
هكذا نرمم منها الكسور و نسد الثقوب. نتناوب في التجديف. أنا لدي دكان يبيع
عصائر ورثته عن أبو أولادي و بإيجاره فتحت وديعة في البنك أزوج منها بناتي
و قد أحج ذات يوم أو أمرض فتشد هذه الوديعة من أزري.
الله دائما يعين. الله دائما جميل. الله دائما مع الصابرين.
في
أول ليلة نبات فيها في الشقة الجديدة أعدت على مسامع بناتي أن الإنسان يجب
أن تظل معنوياته مرتفعه، أن يظل مقاوما و ألا يسمح لأي موقف أن يجعله
ينهار. ذكرت بناتي بما كبرن و أنا أعيده على مسامعهن من شدة و عمق إيماني
بما أقول. ذكرتهن أن وضع الأشجار الظلية داخل المنازل ، و الاعتناء بهن
،سقيهن بالماء بشكل دوري،توفير المكان الذي تصله الشمس بشكل معقول، مسح
أوراقهن و دعمهن بالسماد و المقويات من شأنه إنعاش هذه الأشجار الظلية و
زيادة نموهن مما يعكس الحيوية و حب الحياة والسكينة في جو البيت العام و
يرفع الروح المعنوية لسكان المنزل. كما أعدت على مسامعهن درسي الممل المعاد
و هو ألا يتشاجرن أبداً على مسمع من الأشجار، لأنهن يتأثرن سلباً. فإذا
ارتفع شجارهن على مهام البيت وضعت سبابتي على فمي ،ثم أشرت للأشجار الظلية
فيصمتن البنات بامتعاض. وصل تقديرنا للأشجار الظلية أن بناتي كن يحملن
الأشجار الظلية إلى شرفة المطبخ و من ثم يتشاجرن بحرية! كبرن بناتي و كذلك
ابني على حب الخضرة و الأشجار. تعودن أن يبتسمن في وجوه الشتلات الرائعة.
يمسحن الأوراق بمنديل قطني. و ببخاخ الماء يريشين رذاذ الماء فوق الأوراق
فتقطر الأوراق ندي. الشتلات أجمل ما ينمو تحت أسقف بيوتنا. تشع باتجاه
أرواحنا دفئا وضياء. كائن حي، روح بريئة تريد أن تكبر و تعطي. أحبهن كثيراً
حتى أنني أسميت أجملهن بأسماء بناتي.أحنو عليهن بأصابعي. عندما أحزن من
همومي أجدهن قد ذبلن و انحنين للأسفل! صحوت صباحا، و هو أول صباح في هذه
الشقة. جبت الشقة أتأمل من نوافذها ما يحيط بنا. رأيت مكان أنبوبي طويل
مغطى بقماش أخضر. تهللت أساريري حيث أدركت أن جارنا مشتل! هرعت إلى أشجاري
الظلية التي نقلتها إلى هذه الشقة واحدة تلو الأخرى فوق كفي و داخل حضني من
حرصي ألا ينكسر لهن عود، و لا ترتج لهم تربة، و لا تنحني لهن ورقة.
وشوشتهن :- "سيكون لكن أخوات جدد من المشتل الجديد." قام ابني من النوم،
كذلك بناتي فأبلغتهم أن جارنا مشتل. فرحوا جميعا. قال لي ابني:- "ماما
لدينا أشجار بأسماء أخواتي الخمس، ألان نشتري شجرة جديدة و نسميها باسمي."
وافقت ، و قمنا كلنا من فرط استبشارنا خيراً بجارنا المشتل لنشتري لابني
الشتلة التي يختار. سنأخذ أيضا سماد. فالأشجار في الشقة اعتدن على جو الشقة
السابقة و قد تموت بعضهم لتغير ظروف البيئة في هذه الشقة الجديدة لذا لابد
من تقويتهن بالسماد و المقويات لكي يتجاوزن المرحلة الانتقالية. خرجنا
كلنا للمشتل و كي نتعرف على الحي الجديد. كان لابد أن نعرف كم من البقالات
تجاورنا، إذا كان يوجد محل تعبئة غاز أم لا ، إذا كان يوجد مكان لبيع
الدجاج و الخضروات. دخلنا المشتل مبتسمين. قلت للشاب الذي يبيع الشتلات :- "
السلام عليكم يا ابني. نحن جيرانكم و جدد في المنطقة." أشرت بأصبعي
للعمارة غير أنه لا رفع رأسه و لا نظر للعمارة. لعله تحرج من كم الإناث
الكبير داخل المشتل. قال لي :-" أهلا و سهلا يا حاجة. ما طلبك يا أمي؟"
شعرت بقشعريرة في قلبي من شدة امتناني لتربيته. تمشينا في ممرات المشتل
المضللة. رائحة الطين المبتل تنعش أعماق أرواحنا. رأي ابني شجرة يوغا
طويلة، فذهب و وقف مقربا كتفه منها قائلا:-" أريد هذه يا أمي،هل أنا
أطول؟!" قلت له أن الشجرة أطول بقليل. سألت البائع عن سعرها فأجاب :-" بـ
3500 ريال." رفعت حاجبي بانزعاج شديد. أن ما يلبسه ابني من كساء، و ما في
معدته من غذاء لا يصل لهذا المبلغ. مال هذا الشاب يبالغ في الأسعار. قالت
له ابنتي الكبرى:-" هيا أمانة لكن! انظر كم الولد متعلق بها. نحن جيران
فاكسبنا زبائن." هز رأسه رافضاً:-" هكذا أسعارهن! أنا بائع و لا أملك تخفيض
سعر قد حدده مالك المشتل." كان ابني يشدني و ينط و يدق الأرض بحذائه
صارخاً:- "أنها أطول مني يا ماما. لن أتحرك إلا بها." مال ابني هذا لا يعي و
لا يفهم. لماذا لا يختار بالون أو مليم؟ فجأة أثناء مفاوضاتنا مع البائع
وقفت سيارة فخمة ، تقافز منها رجال مدججين بالسلاح لست أدري كيف حوتهم
السيارة فقد تجاوز عددهم العشرة. انتشروا في كل اتجاهات المشتل. وجوههم
صلبة، ملامحهم قاسية و وحشية. كأنهم ذئاب....أو مجموعة شرسة من الكلاب. ما
أن شاهدهم البائع حتى تركنا و أتجه إليهم مسرعا. كان ابني قد تشبث بساعديه
بركبتي، أحاطت بي بناتي. توجسنا شراً....في حد في الدنيا يدخل يشتري شتلات
و هو مسلح؟ لماذا هل سيصيب الزهور في مقتل؟ هؤلاء القبائل أعدائنا...
ليتهم رحلوا مع الراحلين...ليتهم شخص واحد فيرحل. سمعنا أحدهم يقول للبائع
:- "نريد لبيت الشيخ 80 شجرة السرو مرتفعات الطول ، يغطون أسوار بيت الشيخ
العالية. يخفين الأسوار." أبتسم الشاب بسرور واضح و قال:-"أهلا و سهلاً،
لدي 10 فقط و غدا أوفر لكم باقي السبعين. مرحبا ،مرحبا" لكزه الرجل
بالبندقية قائلا بنبرة تهديد:-" كم سعر الواحدة؟" أجابه أنهن بألف و خمس
مائة. فدفعه القبيلي من كتفه و قال له مصححاً السعر:-" تقصد بخمس مائة أليس
كذلك؟" تجمع القبائل حول البائع و أحاطوا به من كل الجهات. هل سيقتلونه؟
أشفقت عليه. همست ابنتي في أذني :- " هيا ماما نعود للشقة، سنعود لاحقا بعد
أن يرحلون. هؤلاء ليسوا بشر." أجبتها :-" هؤلاء يا ابنتي آخر من سيرحلون.
سنرحل نحن. سيرحل البائع و المشتل و الشجر. سيرحل الطير في الجو، و هم
باقون!" سمعنا البائع و قد بدت ملامح الرعب تتضح فوق وجهه:-"أنا بائع ، لا
املك تخفيض سعر الشتلات إلا بما حدد لي مالك المشتل." مسكين البائع، هل
تتخيل أمة من يحيط به لأن و أنه قد ُيقتل؟ دفعه احد الرجال من كتفه بطرف
البندقية قائلا و عينيه متسعتان تهديدا:- " تقصد بخمس مائة أليس كذلك؟" قام
أحد القبائل بركل الشاب من الخلف فسقط أرضاً. صحت من مكاني :-"حرام ،
اتركوه." انتبهوا أن في المشتل سواهم. التفتوا إلينا. هاجمتنا في نفس
اللحظة عاصفة عاتية . قال لي أحدهم :-"ما شانك يا حاجة، ربي عيالك." كنت
أرتعد لكنني غاضبة. تمنيت لو فوق أرض المشتل حجارة لنلقيها فوقهم مثل ما
ُيرمى الإسرائيلين في غزة. بدا أحدهم يمر على الأواني الفخارية التي تحوي
الأشجار الظلية فيضربها بالبندقية فيشرخها و تسقط كالشظايا. تقوقع الشاب
البائع و تجمدنا نحن و بناتي و ابني. ثم بدأ أحدهم يطلق رصاص في الجو. هل
هذا شراء شجر أم قتل بشر؟ رأيت أحدهم يمسك بين يديه شجرة اليوغا التي أحبها
ابني قائلا للبائع مظهراً أسنان صفراء بشعة:-" و هذه عتديها دعاية."
تسمرنا أنا و بناتي. ابنتي الرابعة أخذتها الشهامة و النخوة فتهورت
قائلة:-" أختر شجرة أخرى. هذه قد اختارها أخي الصغير." نظر إليها باحتقار و
أشار بأصبعه إلى المكان الأجوف داخل رأسه ، مزمجراً:-" حر! لن آخذ إلا
هذه!" أنفجر ابني باكياً، ليس على اليوغا التي بسط عليها لكن خوفاً و رعباً
من ميدان الحرب الذي وجدنا أنفسنا في خضمه. في تلك الأثناء كان البائع
يفاوضهم أن يأخذوا اثنتين بـ500 و الثمانية السرو المتبقيات بـ1500 و إلا
فأنه سيحملهم ذنب طرده من المشتل و قطع رزقه. فجأة أطلقوا جميعا الرصاص في
الجو بشكل جماعي،فصحت لأبنائي:-"انبطحوا أرضاً." سقطت قلوبنا فوق الطين
البارد. ذكرت القبور. نطقنا بالشهادة كذا لقنتها لابني فهكذا يقتل القبائل
أهل اليمن. كلمة قبائل مكونة من القاف فهم قبورنا، و من الباء فهم بلائنا، و
من الألف اللهم أجرنا منهم، و اللام اللهم لا ترضاهم لنا شريك. أجرنا و
أعفو عنا. هدأ الرصاص حين بدا البائع يحمل السرو و يرصهم في السيارة. لست
أدري لماذا غضبت. نهضنا جميعا ننفض الطين من فوق ثيابنا. قلت للرجل الذي
يحمل شجرة اليوغا:-"هل ستعمل عقلك بعقل طفل؟ خذ غيرها." أجابني:-" و الله
لا أخذ إلا هذه. و سيعطيها لي عاصي والديه البائع هدية مجانية!" نظر إلى
البائع، نظرت أنا إليه. قلت قبل أن أغادر :- "الله ينتقم منكم!" غادرنا
المشتل بقلوب خفيفة كجناح الطير. بعد خروجنا بدقيق واحدة سمعنا طلق نار و
مدفعية ثقيلة، فلم ننبطح و لكن طير الخوف منا العقل و التركيز فصرخنا و
تشتتنا كلا في اتجاه. التقينا عند باب الشقة لاهثين، شاحبين...تلفتنا، لم
نجد ابني الصغير. إلى جنة الفردوس يا قلبي الصغير، تزفك الملائكة و أنت
مرتدي حرير. تتكئ على شجرة اليوغا... ستنسيك الجنة ما رأيته يا فلذة كبدي
من واقع مرير.